شكلت اتفاقية الوحدة بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية، التي وُقِّعت في 30 نوفمبر 1989، حدثاً تاريخياً استثنائياً في المنطقة العربية، أنهى حالة من الخصومة والتنافس استمرت لعقود. فقد جاءت هذه الاتفاقية تتويجاً لإرادة سياسية مشتركة، لكن قراءة نصها بعين القانون والسياسة المجردتين تفتح باباً للنقاش الجاد حول طبيعتها الإلزامية وحق الأطراف المتعاقدة فيها في الانسحاب. فمن الناحية القانونية البحتة، تقوم الاتفاقيات الدولية، ومنها اتفاقيات الوحدة أو الاندماج، على مبدأين متلازمين: "العقد شريعة المتعاقدين" و"السيادة الدائمة للشعوب". الأول يفرض الالتزام بما تم التوقيع عليه، والثاني يحتفظ للشعب، كمصدر للسلطات، بحقه في تقرير مصيره. وعند غياب نص صريح في متن الاتفاقية – كما هو الحال في اتفاقية 30 نوفمبر – يمنع الانسحاب أو يحدد عقوبات له، فإن حق الانسحاب يظل حقاً كامناً ومحفوظاً، وليس منحة من أحد الأطراف. فالاتفاقيات السياسية الكبرى، وخاصة تلك التي تؤسس لكيانات سباسية جديدة، ليست عقوداً تجارية عادية، بل هي "عقود اجتماعية" قابلة للتطور والمراجعة بناءً على توازن المصالح وتحقيق الغايات التي أُقيمت من أجلها.
يشير التحليل الدقيق لنص اتفاقية الوحدة إلى غياب أي بند، سواء بالتصريح أو بالتلميح، ينص على أن الوحدة "أبدية" أو "غير قابلة للفسخ"، أو يفرض عقوبات على الطرف الذي قد يفكر في التراجع عنها. هذا الفراغ التشريعي ليس ثغرة، بل هو خيار مقصود يعكس طبيعة المرحلة التي وُقِّعت فيها الاتفاقية، حيث سادت النوايا الحسنة والأمل في بناء مستقبل مشترك. ومن منظور قانون المعاهدات، فإن غياب مثل هذا النص يعني ضمناً الاعتراف بحق كل طرف، بصفته ممثلاً شرعياً لشعبه وسيادته، في إعادة النظر في التزاماته إذا ما تبين أن الأسس التي بُنيت عليها الوحدة قد اهتزت أو انهارت
وبالتالي،فقد كان ولازال من حق ممثلي الشمال، كما كان ولازال من حق ممثلي الجنوب، في أي لحظة، وبحسب تقديرهم لمصلحة شعبهم وسيادتهم، إعلان الانسحاب من هذا الكيان الوحدوي دون الحاجة إلى إبداء أسباب ذلك للطرف الآخر. فهو حق متأصل في السيادة،ولم يتم التنازل عنه أو التقييد به في نص الاتفاقية. ففرض استمرار العلاقة الوحدوية قسراً، بعد زوال الرضا أو اختلال التوازن، هو أشبه باستمرار عقد اجتماعي لم يعد يحقق غاياته، وهو أمر ترفضه كل النظريات القانونية والسياسية الحديثة.
لفهم حجم المأساة التي حدثت، لا بد من اختبار الفرضية بشكل معكوس فلو أن قيادات الجمهورية العربية اليمنية وفي ظل ظروف سياسية أو اقتصادية معينة، قررت فجأة في وقت لاحق أن تعلن انسحابها من الوحدة دون إبداء ألاسباب التي تدفعها لذلك، فماذا كان سيكون رد الفعل؟
1. رد الفعل القانوني: لكان الأمر قد تم ضمن إطار حق السيادة. ولربما أدان المجتمع الدولي الخطوة، واعتبرتها دول أخرى انقلاباً على الشرعية، لكنها من الناحية الشكلية كانت ستكون خطوة "مشروعة" في إطار الفراغ النصي للاتفاقية. 2. رد الفعل الجنوبي: هل كان بمقدور قيادة الجنوب، من الناحية العملية، أن ترفض هذا القرار، وتشن حرباً لاحتلال صنعاء وإجبار الشمال على البقاء في الوحدة بالقوة؟ الجواب البديهي والمنطقي هو: لا. فسوف تتلقى القيادة الجنوبية القرار بالاستنكار السياسي، وربما طالبت بمفاوضات لتصفية أرصدة الوحدة، لكن فكرة الاحتلال العسكري للشمال كانت ستعد ضرباً من الخيال غير المعقول وغير العملي.
هذا الاختبار الفكري يظهر بوضوح الفارق الجوهري في التعامل مع الحق ذاته. فممارسة الشمال المفترضة لحقه في الانسحاب كانت ستمر كحدث سياسي، ربما تبعته أزمة دبلوماسية. بينما تحول ممارسة الجنوب لحقه – بعد إرادة سياسية جمعية تجسدت في الحراك السلمي ثم في التمثيل السياسي – إلى حرب استباقية واحتلال، أي إن رد الفعل على ممارسة الحق لم يكن سياسياً أو قانونياً بل كان عسكرياً وجودياً.
حتى لو افترضنا جدلاً – وهو افتراض غير موجود في الواقع – أن الاتفاقية تضمنت بنداً ينص على "أبدية الوحدة" و"حظر الانسحاب منها"، فإن هذا البند يسقط حكماً وقانوناً وأخلاقاً بشكل تلقائي في حال انتفاء الغرض من العقد. فالاتفاقية لم تكن غاية في حد ذاتها، بل كانت وسيلة لتحقيق غايات مشتركة أسمى: بناء دولة موحدة قائمة على العدل والمساواة وتقاسم السلطة والثروة وتحقيق الرفاهية والرخاء.
لكن ما حدث في الجنوب بعد 1994، وما سبقها من أحداث 1994 نفسها، لم يكن خلافاً سياسياً عادياً، بل كان تقويضاً كاملاً لأسس العقد الاجتماعي الوحدوي:
الإقصاء والتهميش: تحولت الوحدة من شراكة إلى هيمنة، حيث أُقصي الجنوبيون تدريجياً عن مراكز القرار الحقيقية في الدولة الموحدة، وأصبحوا أقلية سياسية في وطنهم المشترك. الإلغاء السياسي: تم حل المؤسسات السياسية والعسكرية الجنوبية بشكل أحادي، في عملية أشبه ب"استيلاء" وليس "اندماج". الاستيلاء على المال العام: تمت مصادرة أملاك الدولة في الجنوب (عقارات، شركات، أراضي ومصانع) واعتبارها "غنائم حرب" أو إعادة توزيعها لصالح نافذين من الشمال، في عملية نهب منهجية لمقدرات الجنوب. الحرب والاحتلال: كان اجتياح الجنوب عسكرياً في صيف 1994 هو القشة التي قصمت ظهر البعير. حيث حولت هذه الحرب المشروع الوحدوي من "اتحاد طوعي" إلى "احتلال قسري" فالجيش الذي كان يفترض أنه جيش وطني للجميع، استُخدم لقمع شريك الوحدة.
هذه الأسباب، مجتمعة، تشكل "نقضاً جوهرياً" للاتفاقية من قبل طرف واحد (السلطة والنظام في صنعاء)، مما يمنح الطرف الآخر (الجنوب) كل الحق القانوني والأخلاقي في اعتبار الاتفاقية منتهية، والمطالبة و المطالبة بالاستقلال الكامل. فالاتفاقيات الملزمة تلزم من التزم بها. ومن ينقض روح الاتفاقية وجوهرها لا يمكنه التمسك بحرفيتها.
خلاصة القول، إن حق الانسحاب من اتفاق الوحدة كان قائماً ومكتسباً منذ لحظة التوقيع عليه، لغياب النص المانع. ولكن الأهم من ذلك، أن ممارسة هذا الحق من قبل الجنوب لم تأتِي تعسفاً او من فراغ، بل جاءت نتيجة طبيعية وحتمية لانهيار المشروع الوحدوي من داخله، وتحوله من حلم إلى كابوس الهيمنة.
حتى لو سلمنا بوجود بند يمنع الانسحاب، فإن إرادة الشعوب هي التي تصنع الشرعية وتلغيه. فالاتفاقيات، مهما علت، هي وسائل لتحقيق سعادة البشر وأمنهم وكرامتهم. وإذا ما تحولت هذه الوسائل إلى أدلة قمع واستغلال، فإن الحق الطبيعي للشعب في مقاومة الظلم وإعادة تشكيل نظامه السياسي يصبح هو القانون الأعلى الذي لا يُلغى. حيث اختار الجنوبيون الوحدة بإرادتهم الحرة، وحقهم في مراجعة هذا الاختيار، بعد أن جُرِّد من مضمونه، هو حق غير قابل للتصرف، تستمد شرعيته من إرادة شعبية صامدة، قبل أن تستمدها من ثغرة في اتفاق هش..