لم تترك الحرب في الجنوب العربي و اليمن مجالاً من مجالات حياة المواطنين إلا وعصفت به، حتى تحولت الغالبية الساحقة إلى ضحايا للفقر والجوع وانعدام الأمان. وفي مقابل هذا المشهد المظلم، تبرز ظاهرة تبدو في ظاهرها لامعة لكنها في حقيقتها سوداء؛ إنها ظاهرة الثراء الفاحش الذي تفجر فجأة في صفوف قادة الشرعية اليمنية وجماعات النفوذ المحيطة بهم وغيرهم. ثروات تضخمت بسرعة مريبة، لا صلة لها بجهد أو عرق أو استثمار مشروع، بل هي حصيلة فساد منظم، بدءًا من قوائم الموظفين والجنود الوهميين إلى صفقات مشبوهة التهمت ملايين الدولارات، ثم جرى غسلها في حسابات مصرفية أجنبية وشركات وهمية خارجية. إنها ليست ثروات عادية، بل ثراء أسود، يقتات من دماء الناس وعرقهم، ويحوّل آلام الحرب إلى مكاسب غير مشروعة. ومن يتابع نمط حياة هؤلاء المسؤولين وأسرهم يدرك حجم الفجوة الصارخة بين ما يعيشونه وبين ما يعيشه عامة الناس. قصور فارهة في الخارج، استثمارات عقارية وتجارية في بلدان بعيدة، رحلات وسهرات ومظاهر بذخ فاضحة؛ كل ذلك في وقت يئن فيه المواطن تحت وطأة الجوع وانعدام الخدمات، ويقف عاجزاً حتى عن توفير وجبة كريمة لأطفاله. لقد صار هذا الترف المستفز ليس مجرد إهانة للفقير، بل جريمة كاملة الأركان بحق الوطن كله.
وما يزيد الأمر سوءاً أن النظام السياسي والقانوني الهش، الذي يفترض أن يضبط هذه الممارسات، قد تحول إلى مظلة تحمي الفاسدين وتمنحهم الحصانة. القضاء مكبل بالنفوذ السياسي، والرقابة المالية إما غائبة أو متواطئة، ما فتح الطريق واسعًا أمام المتنفذين لمزيد من النهب بلا خوف من عقاب. وهكذا صار الفساد منظومة كاملة، يتغذى على استمرار الحرب، ويعيد إنتاج ذاته كلما برزت فرصة إصلاح أو بارقة أمل للتغيير.
الأزمات السياسية التي تبدو على السطح وكأنها صراعات على سلطة أو مناصب ليست في جوهرها سوى حروب خفية على الثروات. فالصراع لم يعد على الشرعية كمفهوم سياسي، بل على الموارد والامتيازات التي تُدرها هذه الشرعية. إنه اقتصاد حرب قائم على النهب المنظم والتهريب وبيع الولاءات. والنتيجة أن السلطة تحولت إلى وسيلة للثراء الشخصي، بينما الوطن نفسه يدفع الثمن الباهظ من مستقبله ومستقبل أجياله.
لا يمكن للمجتمع أن يقبل استمرار هذه الدوامة بلا ردع. المطلوب تشريع جريء يجرم الثروات غير المبررة، ويُلزم المسؤولين بالكشف عن ذممهم المالية، ويتيح مصادرة الأموال المنهوبة وإعادتها إلى خزينة الدولة. المطلوب سلطة قضائية مستقلة لا تخضع للترهيب أو الترغيب، وتتمتع بقدرة فعلية على محاسبة الكبار قبل الصغار. فالقانون وحده لا يكفي إن لم يكن مسنودًا بإرادة سياسية ومجتمعية تُصر على كسر هذه الحلقة الجهنمية.
إن محاربة الفساد ليست ترفًا فكريًّا أو شعارًا سياسيًّا يُرفع للاستهلاك، بل هي قضية حياة أو موت لشعب أنهكته الحروب المتواصلة. فحين تُنهب الأموال العامة، لا تُسرق فقط من خزينة الدولة، بل يُسلب منها حق المواطن في الدواء والتعليم والكهرباء والعيش الكريم. إن السكوت عن هذا الثراء الأسود هو خيانة صريحة لكل الجياع والمحرومين الذين ينتظرون غداً أفضل بعرق جبينهم لا بفتات موائد الفاسدين.
لهذا، لا يجوز أن يُترك مصير ملايين المواطنين، سواء في الجنوب العربي أو في اليمن، رهينة في أيدي قلة صغيرة تعيش في البذخ الفاحش وتتعامل مع الوطن كغنيمة شخصية. فإما أن ينهض المجتمع بقوة القانون والإرادة الشعبية لكسر هذه المنظومة، أو سيظل المستقبل أسيراً لشبكات الفساد التي صنعت من الحرب تجارة مربحة. إن ساعة الحسم تقتضي أن ندرك أن الفساد أخطر من الرصاص، وأن مواجهته واجب وطني وأخلاقي لا يحتمل التأجيل.