قامت الكيانات القبلية على مجموعة من الأسس الراسخة المتماسكة والمتداخلة مع بعضها البعض لعل أبرزها القيم الإسلامية المستمدة من المؤسسة الدينية ممثلة في السادة والمناصب وهم رواد الإصلاح والتنوير والتآلف في المجتمعات القبلية الزاخرة بالإضطرابات والعنف المسلح في الجنوب ، وبالرغم من تمسك القبيلة بكافة أفرادها بمجموعة من القيم والأعراف القبلية التي تستمد مرجعيتها من هرم السلطة في القبيلة ممثلة في شيخها ومجلس حكمائها وعقلائها والتي لا يمكن تجاوزها وتعتبر خطوطاً حمراء تمس شرف القبيلة ومصداقيتها . وترجع في قضاياها الكبرى لتلك المرجعيات الدينية التي تستمد تشريعاتها من الكتاب والسنة وتوجه القبائل الوجهة الصحيحة دون ضغط بوليسي أو عسكري وبما تحظى به من مكانة رفيعة في المجتمعات القبلية ..! وكانت القبيلة إلى عهد قريب تسمع وتطيع مرجعياتها وتمتثل لتوجيهاتهم ومن شذ عن أعراف القبيلة يتم بتره كعضو فاسد فيها . وحتى في مسائل الثأر القبلي الذي يعد أحد مكونات النظم الاجتماعية التي كانت تشكل ظاهرة اجتماعية قديمة منها : الثأر القبلي ، وآخر سياسي ، وبل اقتصادي وثقافي ، ولكننا هنا سنتناول- الثأر القبلي – الذي يواجه تحدياً وخروجاً عن المألوف وتمرداً على الأعراف والتقاليد القبلية السائدة في عصر الفرسان في التاريخ القبلي ، حيث كانت أسواق المدن الرئيسية المحمية أو المهجرة مكاناً مفتوحاً للجميع للمقايضة والبيع والشراء ويشمل ذلك حماية الأفراد والقوافل التجارية أو السيارات التي تنقل البضائع من كل قبيلة تمر في اراضيها ، حتى تصل إلى وجهتها في أسواق المدن الرئيسية ولا شك أن الأحزاب قد تعمدت تدمير بنية المكونات القبلية من خلال استقطاب بعض أبناء القبائل واستهدفت بشكل خاص زعاماتها التاريخية ومرجعياتها القبلية والدينية في وقت مبكر بعد استقلال الجنوب وقد لعب الحزب الاشتراكي اليمني " الجبهة القومية سابقاً " ذلك الدور المشين باستهداف فرسان القبائل وعلماء الدين الصالحين من السادة ورموز المجتمع خاصة في الجنوب ، وافتعال ما كان يعرف بالصراع الطبقي وما صاحبه من قتل وسحل لرموز المجتمع الجنوبي ، لم تندمل جراحاته حتى اليوم !! رغم أن القبائل الجنوبية كانت واعية وملتزمة بدورها الوطني جنباً إلى جنب مع الدولة الوليدة وقد انتظمت في أداء دورها في المؤسسات العسكرية و الأمنية والسياسية في تجربة اتحاد الجنوب العربي !! ورغم ذلك كله فقد عمل المراهقون السياسيون على وأد تلك التجربة الوليدة ودمروا كافة مؤسساتها !! دمرت البنية القبلية والمكونات الاجتماعية وقسمتها وشرذمتها مناطقياً في 13 يناير عام 1986م ثم سلمت الجنوب شعباً وأرضاً لحكم عشائري متخلف في صنعاء !! وبعد قيام الوحدة بين الشمال والجنوب عام 1990م عملت المخابرات وأجهزة صالح الأمنية على تجنيد بعض أبناء القبائل وشراء ذمم النكرات منهم لمحاربة المرجعيات القبلية وتفكيك البنى القبلية القوية التي لم يستطع صالح تجنيدها وإدخالها في حظيرته كما تحالف معه في هذا الميدان " حزب الإصلاح " بزعامة الشيخين القبلي عبد الله الأحمر والديني عبد المجيد الزنداني وتمكنا من استنساخ مشايخ الوهم الذين نفخ فيهم حزب الإصلاح " الغاز " حتى أصبحوا كالمناطيد التي تحلق في المهرجانات !! وفرخ هؤلاء كل الدواعش والطواهش والقاعدة والتكفيريين " طيور الجنة " كما يحلو لهم تسمية أنفسهم وعمل هؤلاء الذين باعوا أنفسهم للشيطان على تنمية الحقد والكراهية والقتل والتكفير للمجتمع وزرعوا الفتن داخل جسم القبيلة حتى أصبح " الطارف غريم " من أبنائها حتى لو كان بريئاً لا ذنب له !! كما أسقطوا العمل بالكتاب والسنة فقتلوا الأبرياء بالأحزمة الناسفة وقطعوا الرؤوس ودمروا وأحرقوا كل من خالفهم !! وباعوا أنفسهم لأجهزة مخابرات صالح وشياطينه والدين منهم براء !! وأحدث ذلك تفككاً وانقسامات حادة في بنية المجتمع وترملت النساء وتيتم الأطفال وفي دراسة حديثة عن الثأر استهدفت 35 % من مجموع النزاعات في ثلاث محافظات وقد جاءت كما يلي : - الجوف المرتبة الأولى 65 نزاعاً قبلياً - شبوة المرتبة الثانية 53 نزاعاً قبلياً - مأرب المرتبة الثالثة 38 نزاعاً قبلياً علماً أن هذه المحافظات تشكل 6 % من إجمالي سكان اليمن ولكن تلك المحافظات بيئة خصبة لتأجيج الفتن والثارات القبلية بسبب الثروات في باطن أرضها. ومن المساوئ التي أفرزتها الوحدة اليمنية في الجنوب هي زرع وتسييس ظاهرة الثأر القبلي والنهب والسلب للآمنين من التجار وحتى من المواطنين البسطاء كثقافة دخيلة وغريبة على المجتمع الجنوبي يأباها شرف القبيلة تاريخيا بينما كانت ولا زالت تمارس في المناطق الشمالية كنوع من التكسب والفيد ولو أدى ذلك إلى القتل وعمدت النخب الحاكمة في اليمن على تعميق الثأر القبلي بقصد إنهاك القبائل وإدخالها في إتون صراعات (قبلية- قبلية )وتفريخ شيوخ يمكن تسميتهم بشيوخ الدولة المستنسخين بهدف تحجيم الطموح القبلي . وتعمل النخب الحاكمة على صرعنة مكونات الثارات وعلى التطويل والتسويف في صدور أحكام القضاء الرسمي ،ويمكن القول أن الحكومات المتعاقبة بعد الوحدة سعت ولا زالت إلى حراسة الثأر القبلي وتسييسه دون حله !! وأصبح اليوم صوت القبيلة أقل خفوتاً إلا أنه لم يتآكل ، وعمدت الدولة ورديفها من الأحزاب السياسية للحد من نشاط زعماء القبائل ومراجعها التاريخية ، وعملت هذه على تطويع وتدجين البعض منهم وشجعتهم على زرع الفتن والثأرات داخل المكونات القبلية من الداخل واستقطاب بعض العناصر الهامشية لإشغال القبائل بعضها ببعض . وعليه فإن ما يجري اليوم من ثارات قبلية وتقطعات وقتل الأبرياء ونهب الآمنين من بعض القبائل الجنوبية يندى لها جبين الإنسانية ، وهؤلاء بأفعالهم الشنيعة تلك ينفذون اجندات خارجية تستهدف الجنوب وأعراف القبيلة ،ومع الأسف الشديد فإن البعض من هؤلاء ينتمون إلى أسر كريمة ومرجعيات قبلية هامة حاول أهلهم إعادتهم إلى جادة الصواب ، ونسي هؤلاء الإمعات الذين يقتلون وينهبون ويتبلطجون ويدعون أنهم من سلالات رفيعة نسي هؤلاء أن الأجداد شيوخ القبيلة قد نشئوا في زمن الجوع والخوف ولكنهم انتصروا على جوعهم وذلهم وخوفهم بشجاعة قلوبهم وكرم أياديهم وعاشوا حياتهم بشرف ، سلاحهم في يد وأريحيتهم في اليد الأخرى وعندما جاء هؤلاء الأوغاد عفوا ( الأولاد والأحفاد ) الذين نشئوا في عز وجاه بسبب أجدادهم وكرمهم لم يكونوا يعرفون شيئاً عن ماضي أجدادهم في الكد والمكابدة والحكمة والسنوات العجاف التي عاشوها مع قبائلهم . نسي هؤلاء الأحفاد كل ذلك بعد وفاة الأجداد وترسخ في أذهانهم صور الشجاعة والكرم التي اتصف بها أجدادهم وهي المعنى الباقي في نفوسهم ومع الأسف تبدت لهم كأنها ميزة في العرق والدم فصاروا على صفة واحدة ! ونسي هؤلاءا أن أجدادهم أدركوا تلك المكانة العالية بعملهم وعرقهم وكفاحهم ولم تكن وراثة عرقية عن أسلافهم ! وما نشاهده اليوم في هذا الزمن الرديء من هذا الجيل الذي يحاول هدم أمجاد وشرف القبيلة ، لمصالح مادية وأحقاد دفينة مثل قتل الناس بالباطل وابتزاز الضعفاء والتعدي على الأسواق كل تلك الآفات الدخيلة على مجتمعاتنا في الجنوب تمر دون رادع ولا عقاب مع الأسف الشديد ، بعد تراجع دور القبيلة ومرجعياتها ولكن هيهات لن نرضى بما يجري اليوم من انتكاسات لأعرافنا وشيمنا وتقاليدنا الراسخة ، فالقبيلة جاءت لنصرة الحق ومحاربة الفساد والظلم ومساندة الدولة المدنية الحديثة وعلينا إعادة الأمور إلى نصابها وحسم أمرنا مع آثام أبناء القبيلة المارقين ، ولو عدنا من جديد إلى حلف الفضول . *- بقلم الدكتور : علوي عمر بن فريد