مجلس المستشارين يقف أمام تداعيات السيول والأمطار في محافظات الجنوب    توقّعات بسقوط أمطار غزيرة على أنحاء مختلفة من محافظات الجنوب    ارتفاع ضحايا منتظري المساعدات في غزة إلى 2,140 شهيدًا وأكثر من 15,737 إصابة    رودريجو يقرر البقاء مع ريال مدريد    الحوثيون يغلقون المتحف الوطني ومتحف الموروث الشعب    سبتمبر : الثورة و التعليم    بأوامر قهرية من العليمي: صرف مرتبات الجيش والأمن للصوص الجمهورية    صنعاء لم تكن إلا عاصمة للغزاة والمحتلين!!    هيئة الأوقاف تدشن مبادرتين ب3 مليارات ريال للتخفيف عن المواطنين    بن بريك ومحاربة الفساد.. الإطاحة برؤوس الفساد ليست سهلة    العملة الصعبة للشهداء والنازحين.. لا للموظفين في فنادق الخارج!    عدن.. جمعية الوفاء تناشد إنقاذ الكفيفات المتضررات من السيول والامطار    تدشين برنامجي زمالة السياسات العامة وحوكمة المؤسسات الحكومية ضمن مشروع "شراكات 2"    اشتباكات بين الجيش السوري وقوات "قسد" في دير الزور    المقدم النقيب يشيد بتضحيات أمن العاصمة عدن ويحذر من التشويه الإعلامي    ندوة ثقافية للجانب النسائي بدائرة التوجيه المعنوي بالمولد النبوي    الرئيس المشاط يعزّي البخيتي والمقباسي    71 صاروخا و23 مسيّرة يمنية استهدفت عمق الكيان    فضائح فساد المرتزقة: 2000 مسؤول يتقاضون ملايين الدولارات دون عمل    هل وراء تغييرات مدرب الناشئين أيادٍ خفية؟    برعم ليفربول يحبط نيوكاسل بانتصار درامي قاتل    شخصيات عسكرية وقضائية وقبلية في اب: الاحتفاء بالمولد النبوي يعزز الارتباط برسول الله    عاجل: مقتل الصندوق الأسود لتنظيم القاعدة في مارب    مستقبل التيار السلفي بالجنوب وعلاقته بالانتقالي والتحالف    مصر تعلن عن اكتشاف استثنائي وتاريخي تحت الماء    إنتر ميلان "يكرم" ضيفه تورينو بهزيمة ساحقة (فيديو)    أبرز مواصفات Galaxy Tab S10 Lite القادم من سامسونغ    أطعمة تمنع تكون الحصى في الكلى    شبوة.. وفاة 8 أشخاص جراء تدفق السيول    "وزارة العمل" توقف تعامل منظمات المجتمع المدني مع شركات الصرافة    أول ظهور لأنغام رفقة عائلتها بعد تعافيها وعودتها إلى مصر    ترامب: لن ننفق أي أموال على أوكرانيا بعد الآن    صحفي يكشف عن صرف ملايين الدولارات لمسؤولين في الخارج تحت بند "الإعاشة الشهرية"    أنشيلوتي يستبعد نجوم ريال مدريد من مُنتخب البرازيل    المقالح: منع الاحتفالات الشعبية بالمناسبات الوطنية اعتراف بالبعد عن الشعب وتأكيد على القمع    يا مُسَلّي على خاطري..    منظمة أممية: السيول تسببت بدمار واسع في اليمن وحجة من أكثر المحافظات تضررا    الحكومة تقر تنفيذ مشروع الممر المائي في عدن وإنشاء مركز طوارئ لمواجهة الكوارث    الجيش الإسرائيلي: صاروخ برؤوس متعددة أُطلق من اليمن لأول مرة باتجاه إسرائيل    فليك فاز بجائزة مدرب العام بعد عام ثوري في برشلونة    اغلاق متحفين في العاصمة صنعاء    جامعة المحويت تحتفي بذكرى المولد النبوي    الصحة يعادل شباب المسراخ في بطولة بيسان    هيئة الأدوية تبدأ العمل بالتسعيرة الرسمية الجديدة لضبط الأسعار وضمان توفره    المحرّمي يطّلع على سير العمل في وزارة النقل وإنجازاتها وخططها المستقبلية    -    علماء يحددون تمريناً رياضياً يحسّن النوم بشكل كبير    ثمن العشوائية    بدء التشغيل التجريبي للمحطة الشمسية الإماراتية في عتق    وزارة الصحة الامريكية تؤكد أول إصابة بشرية بداء "الدودة الحلزونية    امرأة تعثر على لؤلؤة عمرها 100 مليون عام    14 شهيدا بينهم 4 صحفيين في قصف إسرائيلي على مجمع ناصر الطبي في غزة    ب 10 لاعبين.. يوفنتوس يقهر بارما    أستراليا.. أول عملية جراحية في العالم بمساعدة روبوتين    المرصد العربي لفض نزاعات الطيران المدني: الأطر الدولية وآليات التسوية    كتاب قواعد الملازم.. وثائق عرفية وقبلية من برط اليمن " بول دريش جامعة أكسفورد" (10)    زاوية صحية: التهاب الجهاز التنفسي (العلوي )    بشرى الخير وقطف الثمار.. مرحبا دخول ربيع الأنوار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في تيه الأيديولوجيا
نشر في شبوه برس يوم 07 - 04 - 2025

حين يتكرّر التاريخ، لا يفعل ذلك من باب المصادفة، بل لأنه يملك ذاكرة أكثر وفاءً من الإنسان.

ما نراه اليوم من تصاعد الزخم التعبوي للتيارات المتشددة، سواء الدينية أو القومية، ليس سوى نسخة مكررة من روايات فاشية ونازية ويسارية وصهيونية وليبرالية سبقتنا على طريق الصراع والدمار. وفي كل مرّة يتهاوى العالم أمام أزمة كبرى، تولد هذه الأيديولوجيات من رحم اليأس الشعبي، وتتنفس من هشاشة الطبقة الوسطى وسذاجة العامة، حيث تتغذى على الشعارات البسيطة والمقولات المطلقة.

لكن إن شئنا الحديث عن التجربة العربية، فإن ما حدث مع ما سُمّي ب"الربيع العربي" لم يكن مفاجئًا في حقيقته. فمن الطبيعي، حين ينسحب التيار العلماني والليبرالي من المشهد، أن يتقدم التيار الديني لسدّ الفراغ. هذا قانون فيزيائي أكثر مما هو سياسي: الطبيعة تكره الفراغ، والأيديولوجيا تعشقه. وما ملأته الجماعات الدينية لم يكن مشروعًا مدنيًا بقدر ما كان وهمًا لاستعادة "المجد الضائع" في سردية الخلافة والتمكين.

غير أن الفشل لم يتأخر. إذ سرعان ما اصطدم هؤلاء بحقائق العصر التي لا تقبل "الوصاية العقائدية"، فعجزوا عن تحويل خطب المنابر إلى سياسات حكم، وسرعان ما سقطت أقنعتهم عند أول اختبار للسلطة. هنا، وكما العادة، لجؤوا إلى المظلومية والحديث عن "المؤامرة"، كأن الإخفاق لا يكون إلا بفعل خارجي، وكأن عقلهم الجمعي غير معطوب أصلاً.

الحقيقة أن ما يعانيه خطاب هذه التيارات ليس فقط ضعف الفكرة، بل التناقض المزمن بين ما تُعلنه وما تُنجزه. شعارات براقة عن "النهضة"، لكن الممارسة تمضي بنا إلى هوة الاستبداد. نزعة مهووسة بالسيطرة على مؤسسات الدولة، لكن قدرة منعدمة على تدبير شؤون الناس. إنها مفارقة لا تُفسَّر إلا بكونها انعكاسًا لعقل مأسور بين ماضٍ خرافي وحاضر لا يرحم، عقل مأزوم مشدود إلى سرديات خيالية عن "المدينة الفاضلة"، ويائس من بناء دولة قابلة للحياة.

في هذا الصراع، تختلط الميثولوجيا بالديماغوجيا. تجد في كل خطاب للتيارات المتشددة طيفًا من "المدينة المفقودة"، حلمٌ مستحيل يستدعي التضحيات، ويخلق من الأتباع جنودًا مؤمنين لا يحتاجون إلى أدلة، فقط إلى تعليمات. وهذا ما يُفسّر كيف يُنتج هذا الفكر كائنًا سياسيًا غارقًا في عقدة النقص والانتظار، عاجزًا عن صناعة الحاضر، مهووسًا بملاحقة "سراب" الماضي.

وفي العمق، إن ما نراه من تمجيد للزعيم، وتقديس للمشروع، واستعداء للمخالف، ليس سوى تجليات ل"مكبوت سياسي" ظلّ حبيس اللاوعي الجمعي لمجتمعات تعاني من أزمات هوية وانفصام تاريخي. المشروع السياسي المحافظ، سواء الديني أو القومي، ليس سوى محاولة تعويض مريضة لفقدان الثقة في الذات الجماعية. ومن هنا تنبع نزعته الإقصائية، رغبته في شيطنة الآخر، واحتكاره لمعنى الحق والحقيقة.

في هذا السياق، لا يمكن الفصل بين "الوهم الديني" و"الوهم القومي"؛ كلاهما يتغذى من نفس الثنائيات الساذجة: "مؤمن/كافر"، "وطني/عميل"، "تابع/مُضلل". أما الفضاء السياسي، فيُختزل في مبارزة فقهية أو طائفية أو شعاراتية تُغيب فيها البرامج وتتقدّم فيها الفتوى.

ومع ذلك، لا يزال السؤال مفتوحًا: هل يمكن لفكر سياسي مأخوذ بوهم "الخلافة" أن يقود مجتمعات نحو الحداثة؟ هل يمكن لعقل ماضوي، مهووس بالنقاء العقائدي، أن يُنجز عقدًا اجتماعيًا عصريًا؟ كيف يمكن لتيارات تعيش في لا وعي التاريخ أن تؤسس دولة قانون ومواطنة؟

الجواب، كما تُظهره التجربة، لا يحتاج إلى تنظير. لقد فشلت هذه التيارات في تونس ومصر واليمن وسوريا والعراق ولبنان، ليس بفعل قوى خارجية، بل لأن مشروعها ذاته كان مُفخخًا بالتناقضات. فهي لا ترى في الدولة سوى وسيلة تمكين، ولا في السلطة سوى فرصة احتكار، ولا في الناس سوى رعايا مؤمنين أو خصوم منحرفين.

ولعلّ أخطر ما في هذا الخطاب هو طابعه التبريري العنيف. فهو لا يكتفي بالإقصاء، بل يستبطن استباحة الخصم، لغويًا أولًا، ثم ماديًا. فالخطاب يبدأ بتجريد الآخر من الوطنية، ثم من العقيدة، ثم من الإنسانية. وهكذا، تتحوّل السياسة إلى محرقة رمزية، تسبق غالبًا محرقة مادية.

هنا يكمن الخطر الحقيقي: حين يتحوّل التنافس السياسي إلى "صراع وجود"، لا يبقى للسياسة من معنى. يصبح الكل مشروع ضحية، وكل خلاف مشروع فتنة. وحين يُعاد تدوير المعجم اللاهوتي في الممارسة السياسية، يصبح الحديث عن الديمقراطية والعدالة والمواطنة أشبه بنكتة سوداء.

إنّ ما تحتاجه مجتمعاتنا اليوم ليس خطابات ماضوية جديدة، بل شجاعة نقدية تُعيد ترتيب علاقتها مع الدين والتاريخ والهوية. لا خلاص مع فكر لا يرى في الدولة سوى ظل لله على الأرض، ولا في المواطن سوى تابع لوليّ الأمر. كما لا حلّ مع تيارات ترفض التنوّع، وتخشى النقد، وتختزل الدين في شعارات سياسية جوفاء.

لقد آن الأوان لنكفّ عن تبرير فشل هذه التيارات ب"مؤامرات" الخارج، ونواجه الحقيقة: هذا الفشل نابع من خلل جوهري في بنية الفكر نفسه. فكر يهرب من العصر، ويلاحق السراب، ويُقدّس الزعيم، ويُجرّم العقل.

الخروج من هذا المأزق لا يكون إلا بإعلاء صوت العقل النقدي، وتحرير السياسة من قبضة المقدس، ورفض كل مشروع يُراد له أن يُحكم باسم الله، ويُنقض باسم التاريخ.

فالدولة ليست مسجدًا، ولا قبيلة، ولا زاوية. الدولة عقد، والديمقراطية ليست خيانة، بل وسيلة النجاة الوحيدة من جحيم الأيديولوجيا.

*- العين الإخبارية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.