السياسة الإيرانية تعتمد رؤية إستراتيجية مستقلة متحررة من التبعية إلى حد كبير، وقد أدت إلى تحولات واسعة النطاق جعلت من إيران لاعبا إقليميا ودوليا تتعامل مع الدول المختلفة بندية واضحة، في حين تتعامل المملكة بتبعية مطلقة للولايات المتحدة والغرب وضد الأمة وقضاياها. تجيد السياسة الإيرانية تمثيل الأدوار والتكتيك في علاقاتها بدوائرها المختلفة ومتى ما تشاء تغير سياساتها وفقا للمصالح الموظفة للمبادئ، في حين تتعامل المملكة بطرق مكشوفة وفي اتجاه واحد، ولأنها لا تفرق بين ما هو استراتيجي وتكتيكي فإنها لا تسمح بالمناورة ولا توظف معارضة لموقف ما باستخدامها أوراق ضغط لتحسين شروط وانتزاع مكاسب، في حين إيران تسمح للإصلاحيين بالفوز في الانتخابات ليلعبوا دورا تحسينيا في تسويق إيران، أما المملكة فتعتقل كل من يعبر عن موقف معترض على الموقف الرسمي.
التعامل مع الفرق الشيعية ومع السنة استطاع المخططون الإيرانيون التغلب على الخلافات التاريخية بين الإمامية الاثني عشرية والزيدية وكل الفرق المصنفة باطنية الإسماعيلية والنصيرية العلوية، وانعقد مؤتمر في طهران في منتصف الثمانينيات لجميع الفرق والطوائف الشيعية تم فيه الخروج بنتائج غاية في الأهمية، الاتفاق على الوحدة السياسية واحتفاظ كل مجموعة بمعتقداتها، فتوحد الصف الشيعي منذ ذلك الوقت وغدى كتلة سياسية لها وزنها، وهاهي توجد أرضية لنفوذ إيراني واسع من شمال شبه الجزيرة إلى جنوبها من لبنان إلى اليمن من البحر المتوسط إلى بحر العرب وخليج عدن.
السعودية.. حدث الفرق عملت السعودية بكل إمكاناتها على تمزيق الصف السني، وأطلقت للتشدد العنان في توصيف عقيدة المجموعات المختلفة وإضافتها إلى الفرق الضالة من جماعة التبليغ إلى الإخوان ومن يوصفون بالأشعرية، الذين يستخدمون حديث الفرق والفرقة الناجية، وهو حديث ضعيف وعبارة "كلها في النار إلا واحدة" أقرب إلى الوضع ويسوقه السلفيون كما لو أنه من القرآن الكريم وأولوية من الأولويات، وتعمل المملكة بلا كلل على وصف أغلبية السنة بالضلال والهلاك وتجعل الصف السني في حالة من الشتات والمعارك التي تعمل على إشاعة العداوة والبغضاء، وهي فاعل في إفساد العلاقات العربية البينية.
ما هو المفترض إن أمام آل سعود نموذج حي يتمثل في إيران، لكنهم يتبعون سياسة تصب لصالح إيران التي توشك على اجتياح المنطقة وإزالة المملكة من الخارطة، إنها (السعودية) تعتمد في وجودها كليا على الحماية الأمريكية مع رهن سياستها في التبعية المطلقة لأمريكا، وهذا الخطأ الإستراتيجي القاتل يستحيل ثباته، ذلك لأنه عرضة للتغيير في أي لحظة.
لنفترض أن المملكة دولة مثل إيران وتركيا وإسرائيل مع الإمكانات الهائلة التي بحوزتها، إنها ستبني سياسة قائمة على وحدة الصف السني من سراييفو إلى جاكرتا، ومن شمال القوقاز إلى نيجيريا.
تبدو المملكة مثل من يذهب إلى حتفه بأنفه، فهي أخفقت في كل البلاد العربية ولم تبق أي قوة في المنطقة يمكن أن تساعدها، إن تقطيع العلاقات وتمزيقها سياسة منفعلة لا فاعلة لا تتفق مع وزنها المفترض بل تتعارض مطلقا مع وجودها.
إن المملكة شريك في نهوض البلاد العربية ومن ثم شريك فاعل في اقتصاديات البلاد العربية وشركات كبرى منافسة عالميا، لكنها تبدد ثروة هائلة في الاستهلاك والتآمر وإسناد الأغنياء.
إنها لو تملك إرادتها وتدير سياسة وفق رؤية إستراتيجية لكانت لاعبا في السياسة الدولية بالنظر إلى ما تمتلك من عناصر قوة هائلة من وجود الكعبة المشرفة والمسجد الحرام والمسجد النبوي إلى الإنتاج النفطي الذي يعد ثروة مجانية ليس للإنسان فيه دور سوى الاكتشاف والاستخراج، وهو في الواقع ثروة الأمة الضائعة ذلك أن الأصل أن المسلمين أمة واحدة لها سياسة واحدة ودولة واحدة.
مع اليمن المفترض أن العلاقات بين اليمن والسعودية علاقة المملكة المتحدة بالجمهورية الفرنسية، مع توفر عناصر قوة لا تتوفر لفرنسا وبريطاني. إن كل من اليمن والمملكة تعد عمقا إستراتيجيا للأخرى، ويعني العمق الإستراتيجي أن الأرض اليمنية تعد مجالا للحركة في حالة حدوث حرب على المملكة، والعكس صحيح، وتكون العلاقات تحالفية كل منهما يكمل الآخر فيما ينقصه، على سبيل المثال موقع المملكة يمثل نقطة ضعف كبرى بين ثلاثة مضايق هرمز وباب المندب وقناة السويس، ولو حدثت أزمة متزامنة في الثلاثة فإن المملكة سوف تختنق، بالمقابل يمثل موقع الجمهورية اليمنية أهم عناصر القوة، فهي تشرف على الممرات المائية المفتوحة في بحر العرب والمحيط الهندي وتسيطر على مضيق باب المندب، ومن ثم في الحالة التي تكون العلاقات طبيعية تحالفية فإن المملكة تجد ممرا آمنا للتواصل مع الخارج بحرا، والمفترض أن العلاقات على درجة من الازدهار وتعود بالنفع على البلدين لكن المملكة تريد تبعية يمنية، وليس معروفا ماذا تستفيد من اللعب المنحرف في صفوف اليمنيين، كما لا يُعرف ما العائد عليها من رؤية اليمنيين يهربون إلى الداخل، وما هو مؤكد أنها تستخدم من قبل الأمريكان للحيلولة دون استثمار الثروات واستخراج النفط والغاز في اليمن.
وفي أحداث صعدة تبدو المملكة خاذلة لأتباعها ومقيمة قنوات اتصال مع الحوثيين ويحصل البعض منهم على تمويل سعودي لمصلحة من؟ وتاريخها المعادي منذ ظهورها حرب 34 وإسقاط حركة 48 ومد الملكيين والثورة المضادة لثورة 62 إلى محاولة الحيلولة دون الوحدة عام 90 إلى إسناد الانفصاليين في 94 على ما يحدث اليوم من إسناد للثورة المضادة، وإذا حاول الرئيس لوم إيران على التدخل السافر في شئون اليمن تعاقبه المملكة بالإعراض عنه ومد صالح والثورة المضادة.
فلسطين المفترض أن علاقة المملكة بفلسطين علاقة إيرانبلبنان، وعلاقتها بحماس علاقة إيران بحزب الله، كيف غدى لبنان مسرحا لإيران وانسحبت المملكة وعكست سياستها المريضة المفرقة للصف السني على السنة في لبنان، إن علاقتها بفلسطين تعكس الدور المرسوم لها والمرغوب منها.
إن المملكة أحد أهم المساهمين في تحقيق وعد بلفور مع الأنظمة العربية الأخرى عبر التعطيل لجامعة الدول العربية وفشل الجامعة في تحقيق أي إنجاز أو إدارة أي أزمة، وكانت مع نظام مبارك وراء الانقسام الفلسطيني وحصار غزة ولا تزال، إنها تعادي حماس كما هي إسرائيل.
مصر إن المفترض هو قيام علاقات تحالفية مع مصر ومساعدتها على الانعتاق من التبعية، وأن المملكة تسعد بالتغيير الذي حدث في مصر باعتباره فرصة تاريخية لبناء علاقة مع نظام يقوده الإخوان، إذ سيكون قوة هائلة للطرفين معا وقد وصل رئيس منتخب، والمفترض أن تكون مثل علاقة إيران بنظام النصيرية في سوريا.
تقف المملكة ضد إرادة الشعب المصري والمعارضة المعلنة لثورة يناير، ولم تستفد حتى من الطريقة الأمريكية في المناورة والتكتيك المحسوب ثم الوقوف المعلن مع الانقلاب العسكري، ولم تستفد أيضا من الطريقة الأمريكية في المخاتلة والمناورة وإظهار الغموض والاضطراب المقصود مع أنه في جوهره مدير وشريك للانقلاب، ولم تستفد أيضا من الموقف الإيراني الذي عبر عن مواقف رسمية وغير رسمية مختلفة، لكنها تحرص على إبقاء خطوط رجعة مع جميع الأطراف، رغم من أنها أكثر المستفيدين من سقوط الثورة المصرية وعودة النظام السابق.
إن نجاح ثورة يناير يعني بزوغ مشروع عربي يملأ الفراغ الذي تستفيد منه إيران، بل إنها أكثر المستفيدين لقد حاولت المملكة التبرير بأن مرسي أقام علاقات مع إيران، أليست المملكة تقيم علاقات دبلوماسية مع طهران وتغض الطرف عن أنشطتها الفكرية في المملكة، ثم هل كان موقف الانقلابيين من نظام بشار إلا لصالح إيران!؟
سوريا إن الموقف المعلن للمملكة أنها ضد النظام ومع الثورة السورية لكنها في الواقع تعمل بسلبية مفرطة وتكتفي بحديث مندد على المستوى اللفظي، وأقصى ما صنعت أن تقايض سوريا بمصر، أما المستفيد فهي القوى الخارجية (إسرائيل) والولايات المتحدةوإيرانوروسيا، إنها لم تقدم شيئا يذكر للشعب السوري سواء للجيش الحر أم للاجئين السوريين في الأردنولبنان. إن اليد العليا في لبنانوسوريالإيران وأتباعها، إن المملكة لو أرادت لحشدت أولا إجماعا عربيا وإرادة عربية جماعية ومن ثم فرضها على جميع الأطراف بما فيها الإدارة الأمريكيةوروسيا، ذلك أن إرادة عربية جماعية جادة لا يستطيع أي طرف إقليمي أو دولي تجاوزها، لكن الذي حدث هو العكس لقد بدت جامعة سايكس بيكو غاية في المهزلة تتخذ قرارات بإحالة الملف إلى مجلس الأمن الدولي دون مباحثات جادة مسبقة مع روسيا والصين فتحولت إلى أضحوكة وإهانة كبرى مما ظهر أنه قرار عربي جماعي يتم سقوطه لصالح إيران، مع أن روسيا والصين لو شعروا بجدية الموقف العربي وأن الإجراءات قد تصل إلى قطع جماعي للعلاقات الدبلوماسية أو تجميد العلاقات لكان الموقف متغير تماما، لكن آل سعود لا يريدون للشعب السوري التحرر، كما لا تريد الدولة العبرية وإيران، أما واشنطن وموسكو فقد جعلتا من سوريا ورقة للمناورات، وأن نرى مهارات الأمريكان والروس في إدارة الأزمة خاصة مع استخدام السلاح الكيماوي.
لقد كان من بين أسباب الانقلاب في مصر موقف الرئيس مرسي من الثورة السورية وإغلاق سفارة بشار في القاهرة واتخذ الإنقلابيون إجراءات ضد اللاجئين السوريين وسلموا معارضين لبشار وإعادتهم إلى دمشق، أي أن أبسط التعبير عن تأييد الشعب السوري مقايضة الدعم للعسكر باستمرار قطع العلاقات مع بشار ومواصلة رعاية السوريين في مصر، لكن المملكة لم تفعل لتثبت بما لا يدع مجالا للشك أنها تقدم خدمات للقوى المستفيدة من قتل الشعب السوري واستمرار نظام بشار.
العراق ساهمت المملكة في احتلال الأمريكان للعراق، وكانت لحظة تاريخية استعدت لها إيران لبسط سيطرتها على العراق، في حين لم يجد السنة سندا، ووصل الحال إلى أن المالكي يأمر باعتقال طارق الهاشمي، في حين إيران مسيطرة على الشيعة ويحج إليها الصدر والحكيم، وجعلت السيستاني المرجع. صحيح أن إيران تبالغ في فرض التبعية لها لكن المملكة تساعدها بنصيب وافر عبر تعاملها البارد والمعادي للسنة في العراق، كيف جعلت إيران من المالكي تابعا ذليلا وعجزت القوى المختلفة عن إسقاطه؟ إن العراق الذي ضاع وإلى أجل لا يعلمه إلا الله إنما هو ضحية المملكة.
الطوق يقوى تبدو المملكة كمن يعمل على صناعة طوق ليخنقها، ولا يوجد -كما يبدو- أن هناك رجل رشيد فإيران التي تتربص بالمملكة وتسعى لإزالتها من الخريطة تحيط بها من العراق والبحرين واليمن، وإذ لا تخفي إيران تطلعاتها لتحرير الكعبة ولا يخفي الحوثيون التطلع ذاته فإن المملكة تساعد المشروع الإيراني.
العلاقات الأمريكيةالإيرانية وعلاقتها بالحالة اتسمت العلاقات الإيرانيةالأمريكية برفع شعارات وحرب إعلامية دعائية مع تعاون في العراق وأفغانستان، وإذ يجيد الطرفان المناورات وتمثيل الأدوار إلا أن العلاقات إلى وقت قريب كان فيها جوانب من الصراع على النفوذ في المنطقة، وكان الأمريكان يخشون بلوغ إيران صناعة السلاح النووي، مع اندلاع الثورات العربية شعر الطرفان بالخطر من تغيير عربي ينتج مشروعا كلاهما سيخسر خسارة وجودية فقررت الإدارة الأمريكية تعديل سياستها المعلنة تجاه إيران بالتزامن مع رئيس إصلاحي، وظهر ذلك جليا في التعامل مع السلاح الكيماوي في سوريا، وكانت الإدارة الأمريكية ربما تخطط لشن حرب سريعة على إيران لكنها مع الربيع العربي تخشى من إضعاف إيران مع إمكانية حدوث تغيير في المنطقة، وأن من المصلحة الإبقاء على قوة إيران موازية للحيلولة دون نهضة ،عربية ربما وقع تفاهم غير معلن بأن إيران تتوقف عن مواصلة السعي لإنتاج سلاح نووي أو تجمده مؤقتا مقابل تحسين العلاقات ورفع الحظر الاقتصادي الذي يضر بإيران.
الشاهد أن الإدارة الأمريكية قد تسلم المنطقة لإيران مقابل مقايضات في قضايا مختلفة، وليس بالضرورة تسليما كاملا، وقد تعود إيران شرطي أو كلب حراسة لكن ذلك سيؤدي بالضرورة إلى قيام إيران باجتياح المملكة وشطبها من الخارطة، والواقع أنها قطعت علاقاتها مع كل من يمكن أن يقف معها. *المادة نشرت في العدد الأسبوعي من صحيفة الأهالي.