لا استخدم مصطلحاً جديداً كعنوان لهذا المقال، لكنني أُعيد التذكير بذلك المصطلح المتوازي مع ذروة التهافت السياسي الذي يبدأ بالمخاتلة، ثم الكذب البواح، ثم ذر الرماد في العيون من خلال تسويق الادعاءات والأوهام، ويصل إلى قمة الخساسة المُتّصلة بدعارة سياسية سافرة، حيث لا حياء ولا خجل. وقديماً قال العرب «إذا لم تستحٍ فافعل ما شئت»، وهذا الحال ينطبق الآن على كثير من الشواهد والمشاهد السياسية التي فارقت سويّة السياسة، وعبقريتها، بوصفها ذروة النبل والشجاعة الأدبية ومكاشفة الذات، عندما تكون سياسة حقيقية تتمثّل المُنطلق والهدف، وتعتبر الأمة ومصيرها قدس أقداس السلوك والممارسة. وبالعكس تكون السياسة مجرد دعارة اعتيادية عندما تتحول إلى ممارسة للدجل والكذب والمخاتلة. يُعرّف الداعر والداعرة في الأدبيات الإنسانية بوصفهما كائنين فيزيائيين فارقا مقتضيات الروح والعقل والمنطق ليتلحقا بسوق المتاجرة بالأجساد والأرواح، ويطال الأمر الرجل والمرأة على حد سواء، وتختزل اللهجات الشعبية اليمنية صفات كاركاتيرية لهذا النفر من الناس، ففي عدن، وعلى سبيل المثال لا الحصر يُقال على الرجال «الجوفمعويين» بأنهم «بعاكيك»، ومفرده «بعكوك». والكائن الجوفمعوي هو ذلك الكائن الخالي من العمود الفقري، كاليرقات وأشباهها، ويتّسم هذا الكائن بالشراهة في الأكل، وقصر حياته البيولوجية، ولهذا كان التشبيه ملائماً لبعاكيك هذا الزمان من المُسترجلين الذي يعتاشون على الكذب وشهادات الزور والبهتان. هذا هو التعريف الإجرائي الدقيق القاطع المانع للدعارة، ولهذا السبب تعتبر الآداب الإنسانية هذا النوع من السلوك مفارقة أكيدة للسويّة البشرية. وقد تكون هذه الممارسة في أُفقها النفعي المباشر محكومة بعوامل اجتماعية قاهرة كالفقر الشديد والجوع مما هو مشهود في مجتمعات التناقضات الطبقية الحادة، حيث تتواجه الكائنات الرثة الفقيرة حد لامتساخ، مع أُخرى فاجرة الغني حد الامتساخ أيضاً، وهنا يقع الحافر على الحافر، فإذا بطرفي التناقض الحاد يتحولون إلى سبب جوهري في الصراعات العدمية التي يتحمل وزر نتائجها، بل ومسؤوليتها النظام الظالم الغاشم. لم تكن الثورة الصينية الكبرى مسؤولة عن الانتفاضة العفوية للفلاحين في مقاطعة «خونان» الصينية، بل حزب الكومنتانغ اليميني المتوحش الذي أفقر الملايين وجعلهم أحذية في أقدام فاجري المجتمع من المُترفين الفاسقين النهّابين، ولهذا السبب انبرى «ماوتسي تونغ» للسؤال المُحيّر عندما كتب تقريره عن حركة الفلاحين في مقاطعة خونان، واعتبر أن من أوجب واجبات الحزب الشيوعي الصيني الالتحاق بانتفاضة الفلاحين، وتبنّي وترشيد تلك الحركة. حدث ما يشبه ذلك في كومونة باريس التي كتب عنها العلامة المؤرخ «جوستاف لوبون» وهو في معرض تحليل سيكولوجيا الجماهير، كما حدث ما يشبه ذلك أيضاً في الثورة الروسية البلشفية التي عصفت بنظام القياصرة الروسي. أقول هذا الكلام وعيني على الانتفاضة السلمية النبيلة للشارع اليمني، والتي تستحق تداركاً مواكباً من أحزاب اللقاء المشترك بوصفها نواة المجلس الوطني الذي تتّسع أمامه الخيارات والبدائل ليباشر دور الأداة السياسية الجامعة لروافد الثورة السلمية اليمنية، وفي مقدمة الملحمة قوافل الشباب الذين يتقدمون مسيرات المجد الرفيع، ومئات آلاف النساء الماجدات اللائي يسطرن بحضورهن العتيد أنصع صورة عربية زاهية في هذا الزمن الحالك. لكن هذه الحقية النافلة تمنحنا فيضاً من ثقة استثنائية بعدم استبعاد الخيارات البراغماتية التي تطل برأسها جرّاء التطاول في انتهاكات الشارع المسالم من قبل عرّابي المتاهات والحروب. إذا كانت الدعارة السياسية ذات طابع مجاني لمجاورتها شكلاً من أشكال الانحطاط الخلقي الذي يتوفّر بسخاء في أحوال التقلبات السياسية، فإن دعارة السلطويين الماليين المنحلين والمُدججين بنياشين الدولة وألقابها أنكى وأشد قذارة. هذا النوع من العادة السياسية الخفائية حد التقطير للسموم، تتوازى مع تبنّي «الوحدة والحرية والديمقراطية والتعددية» قولاً، واستبدالها الفاقع بعبادة من لا يعترفون باليمن الموحد المتعدد الديمقراطي. وبعيداً عن المقاربة السابقة، أتساءل بيني وبين نفسي حول توصيف المشاهد والحقائق التالية: * كيف يمكن توصيف التصريحات المتناقضة التي نسمعها من عرّابي الفجور السياسي، كالقول مثلاً بأنهم مع الثورة والتغيير!!، بمقابل قذف ساحات التغيير بالمدفعية وراجمات الصواريخ؟ * كيف نفسر لجوء النظام إلى طوق نجاة المبادرة الخليجية، ثم طلب التعديل لخمس مرات، وأخيراً المُطالبة بوضع العربة قبل الحصان، والقول بأن آليات التنفيذ ينبغي أن تكون سابقة على توقيع الرئيس؟ * لكن الرئيس بذاته هو من فوّض نائبه بالتوقيع، وما زالت أجهزة النظام تلهج باسم النائب المُنقذ. هذا الإخراج السياسي السقيم يذكرني بقانون الانحطاط الذي يشمل مختلف جوانب الحياة، وما كان من أمر هذا الانحطاط في البيان العربي يوم أن تكرّست ثقافة الخصي والإخصاء، بدلاً من الإبداع والترقّي. قال أحد ممثلي تلك الركاكة ليصف حال جلوسه أمام بحيرة مائية.. كأننا والماء من حولنا *** قوم جلوس حولهم ماء هذا أقل ما يمكن أن يوصف به خطاب سياسيي الكذب البواح، وللمزيد من التكشُّف على الحال والمآل نواصل السؤال: * ما الذي يجعل الإعلام الرسمي بعيداً عن الحياء والخجل وهو يتحدث عن المنجزات والانتصارات التنموية في بلد يفتقر إلى الكهرباء والماء والدواء، ويعيش غالبية سكانه تحت خط الفقر المتعارف عليه دولياً؟ * ماذا نُسمي التصويت في الجامعة العربية لصالح النظام السوري المجرم، في موقف تفرّدنا به مع لبنان المُصادرة بتوازن ثنائي يتّصل بسوريا جبراً لا خياراً؟ * ولماذا، وبعدها بيوم واحد يصرح أحد عرّابي النظام بمطالبة سوريا بالكف عن العنف وإجراء حوار مع المعارضة!!، والأكثر من ذلك، إدانة الاعتداء على السفارات الأجنبية في سوريا!. * كيف يمكننا استيعاب إدعاءات أبواق البورصة الإعلامية بأن من يقتل المعتصمين والمتظاهرين في المدن اليمنية هم من المعارضة، وأن الجثث المرئية عياناً بياناً يتم استيرادها من ثلاجات الموتى؟! * وحتى جائزة نوبل للسلام الممنوحة لليمنية الاستثناء توكل كرمان جاءت بمثابة شهادة على ديمقراطية النظام بحسب إدعاء الكذابين! ماذا نسمي كل هذا سياسة أم دعارة سياسية؟ وإذا كنت سياسة حقاً، فأين وجه المسؤولية الجسيمة التي تقتضي الصدق مع النفس أولاً، وعدم فتح الباب على مصراعيه للمتاجرة الرخيصة بدماء ودموع اليمنيين؟ حقاً. لم يعد أمام النظام اليمني ومن لف لفه وسار على شاكلته عربياً ما يسترون به عوراتهم، بعد أن مادت بهم السفينة إلى هاوية التهافت والكذب.. هنالك حيث يكون السقوط المريع درجة الحرية الوحيدة المتاحة لهذه الأنظمة، هنالك حيث تتحوّل السياسة إلى سوق نخاسة للعبودية مدفوعة الثمن، وللدعارة معروفة القيمة سلفاً.
*رئيس تحرير مجلة روافد الإماراتيةنقلا عن المصدر أون لاين*