مجلس النواب يدعم خطاب قائد الثورة بشأن التحركات الصهيونية المعادية في المنطقة    اجتماع حكومي بصنعاء يناقش برنامج التحول إلى السيارات الكهربائية    لوحات طلابية تجسد فلسطين واليمن في المعرض التشكيلي الرابع    الاتحاد البرلماني العربي يؤكد على ضرورة انهاء معاناة اليمنيين وصون وحدة البلاد    بن حبريش يختزل حضرموت: "ما أريكم إلا ما أرى".. نزعة فرعنة تشق الصف الحضرمي    وزارة الشؤون القانونية وحقوق الإنسان تنفي وجود أي انتهاكات في حضرموت والمهرة    الصين تدعو إلى التمسك بسيادة اليمن ووحدة وسلامة أراضيه    تحذير أمريكي: تحولات شرق اليمن تهدد التهدئة وتفتح الباب لصراع إقليمي    الكثيري: تظاهرات سيئون تفويض شعبي للقوات الجنوبية    الأرصاد يتوقع حدوث الصقيع على أجزاء محدودة من المرتفعات    بدء إجراءات صرف مرتبات موظفي الدولة لشهر نوفمبر وفق "الآلية الاستثنائية"    إدارة أمن عدن تكشف حقيقة قضية الفتاة أبرار رضوان وتفند شائعات الاختطاف    صنعاء.. البنك المركزي يوقف التعامل مع خمس كيانات مصرفية    قراءة تحليلية لنص "من بوحي لهيفاء" ل"أحمد سيف حاشد"    بسبب جنى الأرباح.. هبوط جماعي لأسعار المعادن    المنتخبات المتأهلة إلى ثمن نهائي كأس الأمم الأفريقية 2025    المجلس السياسي يحذر من تداعيات الاعتراف ب"أرض الصومال"    الشرعية حين تتحول من مبدأ قانوني إلى أداة تعطيل    عاجل: مصرع القيادي الإرهابي رويس الرويمي وخمسة من عناصر القاعدة في عملية أمنية بحضرموت    نائب وزير العدل يتفقد تجهيز مقرات المحاكم الابتدائية المنشأة حديثًا بأمانة العاصمة    وزارة الصحة: العدوان استهدف 542 منشأة صحية وحرم 20 مليون يمني من الرعاية الطبية    حمداً لله على السلامة    الإفراج عن 108 سجناء من الحديدة بمناسبة جمعة رجب    خلال تدشينه مشروع التحول الإلكتروني لصندوق التقاعد الأمني .. اللواء المرتضى: المتقاعدون يستحقون الاهتمام فقد أفنوا سنوات طويلة في خدمة الوطن    المركز التنفيذي للتعامل مع الألغام ينفذ عمليات واسعة لإتلاف مخلفات العدوان بمحافظة الجوف    هل يهزم ابن زايد بن سلمان ويتسبب بقسمة تركة الرجل المريض؟    إيمان الهوية وهوية الإيمان    تكريم البروفيسور محمد الشرجبي في ختام المؤتمر العالمي الرابع عشر لجراحة التجميل بموسكو    مرض الفشل الكلوي (34)    حين يكون الإيمان هوية يكون اليمن نموذجا    الهوية والوعي في مواجهة الاستكبار    الطبيب الخزان يشكو ما تعرض له في مبنى قضائي بصنعاء للنائب العام    الدكتور هادي دلول أستاذ العلاقات الدولية والمستشار في الفيزياء النووية في طهران:نبارك اتفاق إطلاق الأسرى في اليمن وتنفيذه متوقف على مصداقية الطرف الآخر والتزامه    فلسطين الوطن البشارة    العليمي يشن الحروب على الجنوب لحماية سرقاته لنفط شبوة وحضرموت    المكلا حضرموت ينفرد بصدارة المجموعة الثالثة بدوري الدرجة الثانية لكرة القدم    منذ أكثر من شهر.. مليشيا الحوثي تمنع دخول عشرات الشاحنات المحملة بمادة الأخشاب    مجلس الأمن الدولي يعقد جلسة طارئة غدا لبحث الاعتراف الإسرائيلي ب"أرض الصومال"    ميلان يقسو على فيرونا بثلاثية ويعتلي صدارة "الكالتشيو" مؤقتاً    خفر السواحل تحذر من السباحة قبالة سواحل عدن وأبين وشبوة    المحرّمي يطّلع على سير العمل في المؤسسة العامة للاتصالات وخططها المستقبلية    نيجيريا تسقط تونس في مباراة مثيرة وتبلغ ثمن نهائي كأس أمم إفريقيا    وفاة المخرج المصري الكبير داوود عبد السيد    رشاد العليمي يسهل لنجله عبدالحافظ سرقة نفط حضرموت    محمد صلاح يواصل تحطيم الأرقام القياسية في «كأس أمم إفريقيا»    الصحفي المهتم بقضايا الناس وانشطة الصحافة الثقافية عبدالعزيز الويز    قراءة تحليلية لنص «صدمة استقبلتها بقهقهة» ل"أحمد سيف حاشد"    دوري روشن السعودي: اتحاد جدة يهزم الشباب بثنائية نظيفة    اكتشاف آثار حضارة متطورة في باكستان    ضربة بداية منافسات بطولة كأس العالم للشطرنج السريع والخاطف قطر 2025    اتحاد حضرموت بحافظ على صدارة المجموعة الثانية بدوري الدرجة الثانية    ما علاقة ضوء الشمس بداء السكري.. نصيحة للمصابين    العطاس: نخب اليمن واللطميات المبالغ فيها بشأن حضرموت"    الكشف عن عدد باصات النساء في صنعاء    الكتابُ.. ذلكَ المجهول    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    لملس والعاقل يدشنان مهرجان عدن الدولي للشعوب والتراث    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مالك بن نبي .. وفلسفة الحضارة الإسلامية الحديثة
نشر في يافع نيوز يوم 16 - 02 - 2016

يعتبر مالك بن نبي ومدرسته من أكثر المدارس الفكرية التي كان لها أثر واضح في تحديد وصنع ملامح الفكر الإسلامي الحديث، خاصة أن هذه المدرسة اهتمت أكثر من غيرها من المدارس الأخرى بدراسة مشكلات الأمة الإسلامية؛ انطلاقا من رؤية حضارية شاملة ومتكاملة. فقد كانت جهوده لبناء الفكر الإسلامي الحديث وفي دراسة المشكلات الحضارية عموما متميزة؛ سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو المناهج التي اعتمدها في ذلك التناول. "وكان بذلك أول باحث حاول أن يحدد أبعاد المشكلة، ويحدد العناصر الأساسية في الإصلاح، ويبعد في البحث عن العوارض، وكان كذلك أول من أودع منهجا محددا في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ".
ولم يكن بن نبي مفكرا إصلاحيا بالمعنى المتعارف عليه عند معظم من تناول مؤلفاته، بل كان في جوهره "شخص الفكرة"، كان بالأساس تعبيرا عن رؤية منهجية واضحة، ومفكرا معرفيا، أدرك أزمة الأمة الفكرية، ووضع مبضعه على أُس الداء، وهو بنيتها المعرفية والمنهجية، إنه -من دون شك- واحد من أهم رواد مدرسة "إسلامية المعرفة" وإصلاح مناهج الفكر، وإن مفاتيح مالك لا تزال تملك قدرة توليدية في مجال المفاهيم والمنابع والعمارة الحضارية بكل امتداداتها وتنوعاتها".
ابن خلدون العصر
لا غرابة أن نجد من الدارسين للفكر الإسلامي الحديث من يعتبر مالك بن نبي بمثابة ابن خلدون العصر الحديث، وأبرز مفكر عربي عني بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون، ومع أنه قد تمثل فلسفات الحضارة الحديثة تمثلا عميقا، واستلهم في أحايين كثيرة أعمال بعض الفلاسفة الغربيين فإن ابن خلدون بالذات يظل أستاذه الأول وملهمه الأكبر" .
ومالك نفسه لا يخفي تأثره بفكر ابن خلدون ونظرياته حول العمران البشري، بل أشار إلى ذلك في مواضع شتى من كتبه، كما ذكر ذلك في مذكرات حياته "شاهد القرن".
وهكذا ظهر "مالك بن نبي" وكأنه صدى لعلم ابن خلدون، يهمس في وعي الأمة بلغة القرن العشرين، فأظهر أمراض الأمة مع وصف أسباب نهضة المجتمعات، ووضع الاستعمار تحت المجهر؛ فحلل نفسيته، ورصد أساليبه الخبيثة في السيطرة على الأمم المستضعفة، وخاصة المسلمين، ووضع لهم معادلات وقوانين "الإقلاع الحضاري".
ولكن الأمة لم تقلع حضاريا؛ وذلك إما لثقل حجم التخلف بين أفرادها ومؤسساتها، وإما لضعف المحرك المقرر أن يقلع بها، وإما لاجتماع السببين معا. ومع ذلك فقد بقيت هذه المعادلات والقوانين "نظريات" مفيدة للمحركين الذي يهتمون بانطلاق "المشروع الحضاري" للأمة.
مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي
ينبني مفهوم الحضارة عند ابن نبي على اعتقاده الراسخ بأن "مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها".
وانطلاقا من هذا الاعتقاد الراسخ بأهمية الحضارة وضرورة "فقه" حركتها منذ انطلاقتها الأولى إلى أفولها يحاول بن نبي إعطاء تعريف واسع للحضارة، يتحدد عنده في ضرورة "توفر مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه".
وعلى هذا فكل ما يوفره المجتمع لأبنائه من وسائل تثقيفية وضمانات أمنية، وحقوق ضرورية تمثل جميعها أشكالا مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه.
ويتبين من خلال هذا أن مفهوم الحضارة عند ابن نبي شديد الارتباط بحركة المجتمع وفاعلية أبنائه؛ سواء في صعوده في مدارج الرقي والازدهار، أو في انحطاطه وتخلفه، وبالتالي فلا بد من فهم عميق، و"فقه حضاري" نافذ لكل من يريد دراسة المجتمعات دراسة واعية وشاملة؛ لأن حركة المجتمعات الحضارية ظاهرة تخضع كغيرها من الظواهر الإنسانية "لسنن" و"قوانين" اجتماعية وتاريخية ثابتة، لا بد من الإحاطة بها، وإدراك كنهها لكل من يريد أن يعيد لأمته مجدها الحضاري، ويحقق لها ازدهارها المنشود. وهذا ما أكده بقوله: "إن أول ما يجب علينا أن نفكر فيه حينما نريد أن نبني حضارة أن نفكر في عناصرها تفكير الكيماوي في عناصر الماء إذا ما أراد تكوينه؛ فهو يحلل الماء تحليلا علميا، ويجد أنه يتكون من عنصرين (الهيدروجين والأكسجين)، ثم بعد ذلك يدرس القانون الذي يتركب به هذان العنصران ليعطينا الماء، وهذا بناء ليس بتكديس".
والعناصر الضرورية التي تتشكل منها كل الحضارات -حسب مالك- هي ثلاثة: الإنسان + التراب + الوقت
الحضارة إبداع وتميز وليست تقليدا وتبعية
يدعو مالك بن نبي في جل كتاباته إلى ضرورة إبداع بدائل فكرية ومناهج علمية مستقلة تتناسب مع البيئة الإسلامية بدل استيرادها كما هي من الغرب الأوربي. ويلح على ضرورة الاستقلال الفكري في دراسة مشكلاتنا الحضارية والاجتماعية؛ لأنه يعتقد -كغيره من الدارسين للحضارات الإنسانية- أن هناك خصوصيات كثيرة تتميز بها كل حضارة عن غيرها. "فلكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها، وخيار العالم الغربي ذي الأصول الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى ما حوله مما يحيط به نحو الأشياء، بينما الحضارة الإسلامية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلها، سبح خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة.. نحو الأفكار".
ومن أهم الخصوصيات التي ميزت نشوء الحضارة الإسلامية أن نشوءها سببه الوحي الرباني؛ مما جعلها حضارة خالدة خلود المبادئ والتعاليم التي تحملها وتدعو إليها، "فجزيرة العرب.. لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة يذهب وقته هباء لا ينتفع به؛ لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان، التراب، والوقت راكدة خامدة، وبعبارة أصح: مكدسة لا تؤدي دورا ما في التاريخ؛ حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء -كما تجلت من قبل بالوادي المقدس، أو بمياه الأردن- نشأت بين هذه العناصر الثلاثة (الإنسان + التراب + الوقت) المكدسة حضارة جديدة؛ فكأنها ولدتها كلمة "اقرأ" التي أدهشت النبي الأمي، وأثارت معه وعليه العالم".
ولهذا "فالحضارة" لا يمكن استيرادها من بلد إلى آخر رغم استيراد كل منتجاتها ومصنوعاتها؛ لأن "الحضارة" إبداع، وليست تقليدا أو استسلاما وتبعية كما يظن الذين يكتفون باستيراد الأشياء التي أنتجتها حضارات أخرى؛ "فبعض القيم لا تباع ولا تشترى، ولا تكون في حوزة من يتمتع بها كثمرة جهد متواصل أو هبة تهبها السماء، كما يهب الخلد للأرواح الطاهرة، ويضع الخير في قلوب الأبرار. فالحضارة من بين هذه القيم التي لا تباع ولا تشترى.. ولا يمكن لأحد من باعة المخلفات أن يبيع لنا منها مثقالا واحدا، ولا يستطيع زائر يدق على بابنا أن يعطينا من حقيبته الدبلوماسية ذرة واحدة منها"
الحضارة هي التي تلد منتجاتها
وبما أن الحضارة إنجاز لا يمكن أن يوهب أو يشترى أو يستورد؛ فإن بن نبي أولى كل اهتمامه لتحريك الإنسان المسلم الذي يمثل بالنسبة له جوهر الحضارة وعمودها الرئيسي نحو مواقع "الفعالية" و"العطاء" و"الإنتاج"؛ لأن "المقياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها"، وسيكون من السخف والسخرية حتما أن نعكس هذه القاعدة، حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها" .
وعملية استيراد أشياء الغرب ومنتجاته، والاكتفاء بذلك سبيلا للتقدم.. أشبه بالذي يُحاول أن يعالج أعراض المرض ونتائجه البارزة الظاهرة للعيان، بدل أن يعالج أسبابه العميقة، وأصوله الباطنية؛ مما يظهر المرض في الظاهر كأنه قد اختفى، لكنه في الحقيقة لا يزال ينخر صحة المريض، ويستنزف قواه في الباطن. لهذا علينا في معاجلة تخلفنا -كما يرى أحد تلاميذه ابن نبي- ألا نتبع سبيل الاستيراد؛ فنحاول أن نصبغ من الخارج دارنا المتهدمة بلون الحضارة الغربية ونملؤها بأثاثها، ونقتنع بذلك كوسيلة تجعل دارنا المتهدمة المحطمة دارا قوية شديدة الأركان. فإن النظرة البسيطة تشير إلى أن الدار تستدعي مهندسا يدرس أسباب الخلل الذي يوشك أن ينقض البناء، لا تاجرا يملأ البيت بالأدوات والأثاث. وطالما بقي المجتمع الإسلامي عاجزا عن إيجاد البدائل الفكرية والمنهجية التي تنسجم مع عقيدته وواقعه؛ فهذا يعني أن هذا المجتمع ما زال يعاني من التبعية والتخلف، ولم ترقَ أفكاره بعدُ إلى درجة الاستقلال والتحرر الشاملين، وهذا هو الذي يشكل خطرا على حاضر ومستقبل المسلمين في نظر ابن نبي؛ لأن "المجتمع الذي لا يصنع أفكاره الرئيسية لا يمكن على أية حال أن يصنع المنتجات الضرورية لاستهلاكه، ولا المنتجات الضرورية لتصنيعه، ولن يمكن لمجتمع في عهد التشييد أن يتشيد بالأفكار المستوردة أو المسلطة عليه من الخارج.. فعلينا أن نكتسب خبرتنا؛ أي أن نحدد موضوعات تأملنا، وألا نسلم بأن تحدد لنا بكلمة، علينا أن نستعيد أصالتنا الفكرية، واستقلالنا في ميدان الأفكار حتى نحقق بذلك استقلالنا الاقتصادي والسياسي".
القابلية للاستعمار تُكبّل المجتمع وتحول دونه والإبداع
يرى بن نبي أن الاضطراب والفوضى والتناقض والغموض، وغير ذلك من السلبيات التي تتصف بها بعض النتائج الفكرية في العالم الإسلامي إنما ترجع في جانب كبير منها إلى تلك "القابلية للاستعمار" التي تسكن نفوس أبناء هذا المجتمع، وتدفعهم من موقع الدونية والتقليد إلى تمثل أشياء الغرب وأفكاره دون أي دراسة دقيقة وواعية بالتمايز الحضاري الشاسع الموجود بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الغربية.
وبدل أن تساهم كتابات أولئك المغتربين في تشييد البناء الحضاري للأمة الإسلامية، نجدهم يلجئون إلى تكديس "المعارف"، والانجذاب إلى الإكثار من الألفاظ الرنانة، وتلويك المصطلحات الغربية التي فقدت الحياة بمجرد قلعها من بيئتها الحضارية الأصيلة في الغرب. وطبيعي أن هذا التكديس لا يؤدي إلى إنشاء حضارة؛ لأن "البناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة لا التكديس، ولنا في أمم معاصرة أسوة حسنة. إن علينا أن ندرك أن تكديس منتجات الحضارة الغربية لا تأتي بالحضارة.. فالحضارة هي التي تُكوّن منتجاتها، وليست المنتجات هي التي تكوّن حضارة.. فالغلط منطقي، ثم هو تاريخي؛ لأننا لو حاولنا هذه المحاولة فإننا سنبقى ألف سنة ونحن نكدس ثم لا نخرج بشيء".
وهكذا نجد هؤلاء المغتربين والمتمثلين تقليديا لأفكار الغرب لا ينظرون إلى الحضارة الغربية إلا من خلال قشورها، ولا ينقلون منها إلا ما يسميه بن نبي "بالأفكار الميتة" أو "القاتلة" التي ترمي بها إليهم هذه الحضارة عن طريق مراصدها الفكرية حتى يظلوا تابعين لا مبدعين، منفعلين لا فاعلين. وهذا عكس ما فعلته "النخبة المثقفة" في اليابان مثلا التي استطاعت في تعاملها مع الغرب أن تفرق بين ما هو صالح للاقتباس، لا بد منه ولا ضرر يخشى منه، وما هو طالح وخاص بالقيم والأخلاق الغربية التي تتعارض مع قيم الإنسان الياباني وأخلاقياته
ابن نبي وضرورة استلهام التجربة اليابانية
شكلت التجربة اليابانية لكثير من المفكرين والمهتمين بقضايا التنمية عموما في العالم الإسلامي نموذجا يختزل كثيرا من الدروس التي ينبغي استخلاصها للنهوض وتحقيق التنمية المنشودة؛ ولهذا نجد ابن نبي في كثير من مؤلفاته يشيد بدوره بهذه التجربة؛ فقد كانت الانطلاقة الحديثة للمجتمع الإسلامي – في نظره – معاصرة لانطلاقة أخرى في اليابان؛ "فالمجتمعان قد تتلمذا سويا في مدرسة الحضارة الغربية، واليوم هاهي اليابان القوة الاقتصادية الثالثة في العالم. "فالأفكار الميتة" في الغرب لم تصرفها عن طريقها؛ فقد بقيت وفية لثقافتها.. لتقاليدها.. لماضيها".
وفي مقابل هذا يرى الأستاذ أن المجتمع الإسلامي – رغم الجهود المبذولة من قبل رواد عصر النهضة – ما يزال مجتمعا متخلفا؛ لأنه مجتمع لم يستطع أن يتعامل مع الحضارة الغربية تعاملا علميا ونقديا، يقول: "الواضح أن المشكلة التي تطرح نفسها لا تتعلق بطبيعة الثقافة الغربية، بل بالطبيعة الخاصة بعلاقتنا بها. فالطالب المسلم الذي يلتحق بمدرستها هو بين نموذجين: الطالب المجد، والطالب السائح. وكلا الطالبين (المجد والسائح) لا يذهبان إلى منابع الحضارة، بل إلى حيث تتفطر فيها أو تلقي فيها نفاياتها.
فالفرق شاسع إذن بين تعامل المسلمين مع الغرب، وتعامل الإنسان الياباني معه؛ حيث إن هذا الأخير ترك القشور واهتم بالجوهر، فتمكن من استيعاب العلوم الغربية التي تمثل سر شموخ حضارتها. دون أن يؤدي به ذلك إلى فقدان هويته، والسقوط في التبعية والتقليد. "فإذا كان اليابان قد بنى مجتمعا متحضرا؛ فهو قد دخل الأشياء من أبوابها، وطلب الأشياء كحجة، درس الحضارة الغربية بالنسبة لحاجاته، وليس بالنسبة لشهواته. فلم يصبح من زبائن الحضارة الغربية يدفع لها أمواله وأخلاقه، أما نحن فقد أخذنا منها كل رذيلة، وأحيانا نأخذ منها بعض الأشياء الطيبة التي قدرها الله لنا".
وقد خصص بن نبي مقالات عديدة للرد على هذه النخبة المغتربة التي لا تفرق في اقتباسها واستلهامها لأفكار ومناهج الحضارة الغربية بين ما هو صالح للاقتباس وما هو خاص بحضارة معينة، لا يمكن نقله لأي بيئة حضارية أخرى مغايرة
الدورة الحضارية عند بن نبي
استخلص بن نبي من قراءاته المتعددة للتاريخ البشري وفلسفته، ولتاريخ الحضارة الإسلامية على وجه الخصوص أن مسيرة الأمم والجماعات تخضع لنظام دوري، قلما تنجو أي أمة من الأمم من جريانه. وهذا في نظره هو الذي يجعل الأمة في فترة من فترات تاريخها الحضاري تسجل مآثر عظيمة ومفاخر كريمة، تبقى خالدة في سجل تاريخها وتاريخ البشرية من حولها، كما تسجل عليها في فترات أخرى انتكاسات وهزائم حضارية وعمرانية وعسكرية، وغير ذلك من الحالات المرضية التي تهوي بالأمة إلى مهاوي التخلف والانحطاط في آخر طور من أطوار دورتها الحضارية. "وهكذا تلعب الشعوب دورها، وكل واحد منها يبعث ليكون حلقته في سلسلة الحضارات، حينما تدق ساعة البعث، معلنة قيام حضارة جديدة، ومؤذنة بزوال أخرى".
ويرى بن نبي أن هذا القانون طبيعي جدا؛ لأنه يخضع لنفس النواميس التي تخضع لها باقي مخلوقات الله في هذا الكون؛ فاليوم يبدأ بالشروق والزوال، ثم يتبعهما الغروب الذي يسدل الظلام على الكون، والشهر كذلك يبدأ ببزوغ الهلال، ثم يستكمل تدريجيا دورته؛ لينتهي بعد ذلك إلى الزوال ليبدأ شهر آخر، واحدا بعد الآخر في إطار سلسلة دورية مستمرة. انطلاقا من هذا يقول بن نبي: "إذا نظرنا إلى الأشياء من الوجهة الكونية؛ فإننا نرى الحضارة تسير كما تسير الشمس؛ فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر".
ولا يعني هذا أن التاريخ يفرق هداياه، أو يوزع أمجاده لأي كان، كما تنشر الشمس أشعتها حينما تؤذن بالشروق، لكن التاريخ كتلة من السنن والنواميس الإلهية التي تتحكم في توجيه الأفراد والمجتمعات على السواء. وهذه السنن والقوانين لا بد من استيعابها، والسير على هداها لمن أراد النهوض والريادة الحضارية. أما الذين لا يحترمونها ولا يستوعبون عبرها ومراميها؛ فإن حركتهم تكون حركة مضطربة لا يحكمها ضابط ولا هدف؛ مما يؤدي إلى مصادمة السنن الهادية إلى البناء والدخول في فترة الخمول. و"من عادة التاريخ ألا يلتفت للأمم التي تغط في نومها، وإنما يتركها لأحلامها التي تطربها حينا، وتزعجها حينا آخر؛ تطربها إذ ترى في نومها أبطالها الخالدين وقد أدوا رسالتهم، وتزعجها حينما تدخل صاغرة في سلطة جبار عنيد".
ولكي يخرج المسلمون مما هم عليه الآن من سبات حضاري وخذلان لا بد أن يستوعبوا سنن الله الثابتة في الكون التي يخضع لها الأفراد والجماعات؛ لأنهم بهذا الاستيعاب فقط يمكن أن تكون حركتهم في التاريخ حركة ثابتة وهادفة بدل أن تبقى كما هي عليه الآن حركة عشوائية تحكمها الصدف، وتوجهها الأهواء الفردية والنزوات الشخصية. "فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا، ولعل أعظم زيفنا وتنكبنا عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا، ولعل أكبر أخطاء القادة أنهم يسقطون من حسابهم هذه الملاحظة الاجتماعية، ومن هنا تبدأ الكارثة، ويخرج قطارنا عن طريقه؛ حيث يسير خبط عشواء".
ويرى بن نبي في هذا الصدد أن كل الحضارات الإنسانية خضعت لنفس هذا القانون الدوري المتحكم الذي تخضع له الحضارة الإسلامية بدورها
وختاما لا بد من الإشارة إلى جملة من الملاحظات التي تتعلق بفكر مالك بن نبي:
أولا: على الرغم من اهتمام بن نبي بقضايا الحضارة ومشكلاتها فإن ذلك لم يجعله ينحو بتحليلاته منحى التجريد والنظر البعيدين عن هموم الأمة الإسلامية وقضاياها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية؛ بل ظل على الدوام ملتصقا بواقع الأمة، وراصدا لمختلف التحولات التي تطرأ عليها.
ثانيا: تتبُّع مالك بن نبي لواقع الأمة الإسلامية ورصده لمختلف ظواهره لم يجعل فكره يتيه في طلب حلول جزئية أو ترقيعية لمعالجة هذا الواقع؛ بل نفذ ببصيرته ليكشف الخيوط الرابطة لتلك الظواهر، وليضع الحلول المناسبة لمشكلات الأمة، على شكل معادلات رياضية وقوانين دقيقة.
ثالثا: إن أهمية فكر مالك بن نبي وسمو اجتهاداته لم تقابلها بعض الدراسات والبحوث القادرة على النفاذ إلى مقاصدها، وهذا ما يدعو إلى ضرورة بذل المزيد من العناية بهذا الفكر، وذلك بالآتي:
1- إعادة نشر كثير من مؤلفاته والتعريف بها ومدارستها بعمق.
2- وضع مفاتح منهجية لتتبع اجتهادات هذا المفكر في مختلف المجالات، وتعميق النظر في "المفردات" و"المفاهيم" و"المعادلات" و"القوانين" التي أبدعها بقصد استيعابها والبناء عليها، وتوظيفها لتحليل وتوليد الحلول المناسبة لكثير من المشكلات الحضارية المستجدة في واقع الأمة.
ابراهيم رضا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.