في واحدة من أخطر اللحظات المرتبطة بمصير اليمن، كشف المبعوث الأممي إلى اليمن، جمال بن عمر، عن مقترحه لمخرجات مؤتمر الحوار حول القضية الجنوبية عبر تحويل الدولة اليمنية إلى دولة اتحادية. المقترح جاء مبهماً في كثير من النقاط، في ظل توافق على رفض أي حل يمس بوحدة اليمن والاكتفاء بتبني مقترح الأقاليم دون حسم عددها. هذه الضبابية كانت متوقعة نظراً للطريقة الخاطئة التي أطلق فيها الحوار الوطني وجرت أعماله. الأسوأ أن الاستخفاف بإيجاد مخرج لقضايا اليمن العالقة يأتي في وقت تعيش فيه الدولة اليمنية واحدة من أسوأ مراحل ترهلها وانهيارها، حتى غدا الحديث عن غيابها هو المعتاد أما حضورها الفاعل فهو الاستثناء، وخصوصاً في الساحة الجنوبية التي كانت على مدى الأيام الماضية مع تحرك جديد عنوانه "الهبة الشعبية" في حضرموت. الهبة انطلقت من حضرموت، أكثر مناطق الجنوب خصوصية حيث تتواجد داخلها بفاعلية مختلف القوى السياسية والقبلية، فضلاً عن نفوذ إقليمي وتحديداً للسعودية، في مقابل اعتزاز اهلها بهوية "حضرمية"، لم تمنع من ظهور دعوات سابقة تنادي ب "دولة حضرموت" بعيداً عن الشمال والجنوب معاً. "الهبة" شهدت الاستيلاء على عدد كبير من الإدارات المدنية في المنطقة فضلاً عن تسلم النقاط العسكرية في الشوارع وحتى في محيط المواقع النفطية. كما انضمت إلى "الهبة" باقي المحافظات الجنوبية. أما محركها فلم يكن سوى قتل شيخ مشائخ الحموم، المقدم سعد بن حمد بن حبريش، على حاجز عسكري مع مرافقيه، بعد أشهر فقط من تأسيسه حلفاً بين جميع قبائل حضرموت حيث تم التوافق في حينه على الدفاع المشترك بين القبائل ضد أي اعتداء على أي شخص أو قبيلة، واعتباره اعتداءً عليها جميعاً. مع دخول "الهبة" يومها الرابع بات بالإمكان تسجيل مجموعة من الملاحظات على هامشها. الملاحظة الأولى، أن المسؤول الأول والأخير عن "الهبة" هو الدولة. بعد مقتل بن حبريش، مطلع الشهر الحالي، تداعت القبائل المنضوية في الحلف الى مؤتمر عاجل في 10 من الشهر الحالي لمناقشة الرد على قتله وخصوصاً بعدما وصفت العملية بالاغتيال. خرج المؤتمر بعدها بعدد من المطالب وهدد في حال عدم تنفيذها، بالخروج في "هبة" شعبية بعد 10 أيام فقط وهو ما تم بالفعل، إذ انطلقت "الهبة" يوم الجمعة الماضي. الدولة في رفضها تلبية مطالب القبائل تكاد تكرر الخطأ التي ارتكبته مع المتقاعدين العسكريين في الجنوب عندما خرجوا رافعين مطالب حقوقية بينها إعادتهم إلى الخدمة، لكن سياسة الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، بصم الآذان عن مطالبهم، حولتها من مطالب حقوقية إلى مطالب سياسية عنوانها فك الارتباط والشمال. الملاحظة الثانية، والأهم، أن الحراك الجنوبي، بما يمثله من حامل سياسي لقضية فك الارتباط بين الشمال والجنوب ليس هو المحرك للهبة التي تشهدها المناطق الجنوبية. مجريات الأحداث في الأيام الماضية تؤكد ذلك. البيان الذي صدر من قبل القبائل في العاشر من الشهر الحالي، لم يذكر الجنوب بل تم وضع الهبة الشعبية في إطار حضرمي بحت. إلا أن الحراك الجنوبي عبر عدد من قياداته التقى بالمشائخ لدفعهم إلى تبني "هبة" جنوبية. ورغم أن ذلك لم يحدث، انخرط الحراك عبر أنصاره في "الهبة" داخل حضرموت وفي باقي المناطق الجنوبية. وهو ما قوبل بحرص الحلف على التأكيد مراراً أن الحراك لا يقود "الهبة" الشعبية ولا يعدو كونه شريكاً فيها. أمر يفسر جزئياً لماذا لم ترفع أعلام الحراك الجنوبي على كثير من المقرات التي تمت السيطرة عليها في حضرموت على عكس ما جرى في مناطق أخرى سواء داخل حضرموت أو في باقي المحافظات الجنوبية.لكن في رفض رفع علم الحراك ما هو أبعد من ذلك، حيث تحضر آثار الماضي القريب، إذ أن علم الحراك بالنسبة للكثير من القبائل هو علم الحزب الاشتراكي، الذي كان يحكم الجنوب قبل الوحدة، وكان من أشد خصوم القبائل. من هنا، فإن في الحرص على "حضرمية" الهبة، رسالة واضحة بأن لحضرموت خصوصيتها وعلى الجميع احترامها سواء من الحراك أو من أي طرف آخر. وهو ما يبدو أن الحراك الجنوبي يعيه جيداً من خلال ما ذهب إليه نائب الرئيس اليمني السابق، علي سالم البيض. الأخير كرر في رسالته التي خاطب فيها "أهالي حضرموتوالجنوب" قبل يومين مرتين متتاليتين أن "الجنوب القادم لن يكون جنوب قبل عام 1967 ولا جنوب قبل عام 1990، وإنما جنوبٌ جديد يتسع لكل أبنائه"، أي لا جنوب المشائخ السلاطين ولا جنوب الاشتراكي. هذه المعطيات تقود إلى الملاحظة الثالثة المتعلقة بالدور الاقليمي في ما يجري في حضرموت، وتحديداً للسعودية. في أوساط قيادات الحراك من لا يتردد في الحديث عن دور سلبي للمملكة، لكنه سرعان ما يقرن ذلك بطلب عدم ذكره اسمه. وبعيداً عن المعلومات التي سربت عن لقاء رفيع المستوى عقد بين أحد أبرز مسؤولي الاستخبارات في السعودية وعدد من المشائخ، فإن الترابط بين السعودية وحضرموت ليس بحاجة إلى هذا اللقاء، فالعلاقة بين الطرفين أبعد من ذلك بكثير. أغلب تجار حضرموت يعملون في السعودية، ولطالما نالوا معاملة خاصة من قبل المملكة، ما سهل لهم، ليس فقط تعزيز ثرواتهم، بل أيضاً نفوذهم في حضرموت سياسياً واقتصادياً، الأمر الذي يتيح للسعودية متى ما شاءت أن تكون لها عبر مجموعة من الشخصيات الحضرمية اليد الطولى في الكثير مما يجري، وتحديداً عبر رجل الأعمال عبد الله بقشان، الذي أفيد عن زيارته صنعاء وعقده لقاءً مع هادي على خلفية "الهبة". حتى اللحظة من الواضح وجود رغبة من قبل جميع الفاعلين بعدم وصول التصعيد إلى ذروته.رغم الاشتباكات المتقطعة بين القوات العسكرية ورجال القبائل، لم يبد الرئيس اليمني، رغبة في استخدام الحل الأمني، وسط اعتقاد بأن هادي على غرار مختلف الفاعلين السياسيين في اليمن كان يريد معرفة إلى أين سيقود الاحتجاج في الشارع وكيف يمكن استخدامه في لعبة عض الأصابع بين مختلف القوى اليمنية خصوصاً مع عودة الحديث عن ان تحالف 94 الذي خاض الحرب ضد الجنوب يعيد انتاج نفسه. كل ذلك، يتيح اعتبار "الهبة" بمثابة رسالة إنذار بأن قلب الطاولة ممكن في أي لحظة، وأن الأنظار يجب ألا تترقب فقط ما يصدر من قرارات سياسية في صنعاء أو تحركات احتجاجية في عدن، عاصمة الجنوب. في حضرموت يمتلك كل طرف داخلي وإقليمي ما يمكن أن يتيح له إعادة خلط الأوراق من دون أن يكون لديه ما يخسره.