: الإهداء : إلى الصديق الحبيب قادري حيدر لست من عدن ولا من صنعاء ولا أنتمي إلى أية جهة أو جبهة في هذه البلاد المنخولة بحراب الجهات والجبهات. لا أدري متى استجبت لنداء اللجوء إلى الظل، ولم استوثق من ارتباط ذلك بوشوشات غبش (الوعي الشقي) والابتلاء بالخذلان من وساطة الرياح الهوجاء والحروب التي اختلست سنوات العمر والحلم والأمل والمستقبل وتمخصتني ضحية لشتى ضروب الاختلاس، ملتاثاً بالزهايمر الفوتوغرافي، فاشلاً في اجتياز امتحان استعادة صورة النرجسيات الأولى. تحت تأثير هذا النوع من الزهايمر تخالطت الصور والعناوين والمواعيد في ذهني وذاكرتي بتطرف تجاوز كل الحدود المتعارف عليها للتشوش والربشة، وتهاوت التخوم الفاصلة بين مواعيدي (التاريخية)، ولم أعد أتذكر فيما إذا كنت دخلت الحزب قبل الحرب أم الحرب قبل الحزب، فيما ترجيحات الشواهد والإشارات تفيد بأني دخلتهما في موعد واحد، فهما واحد في هذه البلاد وليس ثمة ما يمنع حذف النقطة الرابضة على (الراء) وكافة النقاط الساهرة على حبس (العربية) وأنفاس العباد والبلاد. وفيما خص موعدي في الدخول إلى الحب يمكنني القول بأنه تأجل فهو يحتاج إلى عمر آخر، ويمكن إدراجه في خانة مشاريعي الكثيرة المؤجلة. أعرف جيداً أني بعد اللجوء إلى الظل تأهلت بانسياب عذب للإقامة في الغربة عن الأمكنة والناس وعن نفسي إلى أن استغرقتني الغربة واستغربتني. اعتنقت المنفى بتدرج ومثابرة إلى أن احترفته. لا أتذكر كم سلخت من الطرقات وكم تهشمت تحت المطارق والسياط والسكاكين، وكم هي الأرصفة والحفر التي شربت وجهي ووسامتي ورحيق الأيام والعمر، ومتى كان موعدي الأول مع الترحل. أعرف برسوخ بأني أقف على مسافة واحدة من الغيم والقش، من السراب والتيه والمرايا، وأني مترحل بحذر وسلطنة، وليس بمقدوري تعريف نفسي بغير هذه الصفة، فأنا مترحل بالفطرة والسليقة، بالظاهر والمضمر، بالنظرية والممارسة، ولا أدري كيف أكون وكم استطيع. مترحل أترنح في الفراغ، لا تحتويني جهة ولا جبهة، ولا أقيم على أرض، وتتقاذفني البراري حيث تقل الصداقة والوفاء، وتكثر الضواري، ويتغول العطش ويتطاول جوع التاريخ. مترحل، شريد، مطارد، نازح بلا موعد آخر، ومثخن بالحروب دونما قسط من راحة أو حتى هدنة تكفي لكتابة مشروعي –شهادتي- الذي تأجل طويلا إلى أن يحين الوقت المناسب، ويستقر الوضع، ولكن الوقت المناسب لم يحن أبدا ويبدو انه لا يزور هذه البلاد أبدا، وكذلك هو حال الوضع فهو لا يستقر ويبدو انه لن يستقر في قابل الأيام والأعوام بإصرار من يستكثر عليّ الانتفاع بهدنة موجزة تكبح اندفاعي في هرولة الهرب الأبدي. تأجل مشروعي في تكوين نفسي وبعد الخمسين ضحكت من نفسي. حتى مشروع الرواية التي كانت النفس الأمارة ساورتني به في مقتبل الشغف بفتنة السرد، تأجل هو الآخر كثيراً ولم ينجز. والمحزن أن أبطال الرواية التي انتويت كتابتها ماتوا قبل أن اكتبها، وتوجب عليّ احترام حق الموتى "الشهداء" والكف عن التنكيل بهم روائيا، فجلهم أصدقاء ورفاق قضوا قتلى–يرحمهم الله- وكانوا قد سمعوني وأنا أتوعدهم باكتنافهم سرديا كأبطال في رواية لا تشبه حتى نفسها! وتأجلت الرواية على غرار كافة مشاريعي التي تأجلت وترحلت لتضاف إلى زمرة الشهود على افتقار سيرتي (النضالية) إلى الإنجاز فيما تصرم من حطب العمر، وصار مستقبلي ورائي. أما ما تبقى من حطام الأيام وعلى سطح الأفق الشاحب المترامي قدامي، فقد صار مغلفا بعنوان يأمرني بإعادة هيكلة وجهي بصيغة تكفل زرع عينيَّ في قفاي وتقنعني بأن أقبل بقسمة من يتوجب عليه الاكتفاء بما تبقى لديه من نعمة الإبصار لالتقاط الحصى والتحويم في (خلفيات) ما كان يحدث وما يحدث الآن رأفة بعنق شارف على الانكسار تماماً جراء الالتفات الدائم إلى الخلف، في كل الأيام والأوقات والمنعطفات والندوات والاجتماعات والمسيرات والاعتصامات والخطب والمواكب الاستعراضية والجنائزية. ليس ثمة ما يدعوني إلى التحرج من الاعتراف باحتكار كل هذا التراكم من الإخفاق عن إنجاز المشاريع الصغيرة والكبرى، ولا ما يجبرني على التذرع بشماعتي الوقت والوضع، والزعم بأن الأول (ضيِّق) وغير مناسب، والثاني غير مستقر، وأنهما لا يسمحان لأمثالي بإنجاز مشاريعهم و... ربما كانت حالتي هذه متصلة بأول وسواس أغواني بالقفز فوق ظلي، أو باليوم الذي هجست فيه ب(تغيير العالم)، ووجدتني من بعده أتقلقل في أتون مرجل تلخبطت فيه ومعه خارطة مدركاتي وحساباتي إلى أن كان ما كان وتغير العالم باتجاه معاكس تماماً لما ارتسم في الذهن والمخيال، وقررت حرمانه من دوري في تغييره بالإياب إلى منصة انطلاق مكينة اسمها (الوطن) على اعتبار أنه الأحق بجهدي ودوري، والإياب إلى منصة بعيدة ونائية على شاكلة تلك المنصات التي تنطلق منها الرسالات الخلاصية اسمها (القرية) كونها الأحق والأولى بعصارة خبرتي ومعارفي عملاً بالحديث: "خيركم.. خيركم لأهله". وفي رحلة الإياب هذه أعتقد أني وصلت متأخراً، كما في كل مرة، ولم أجد لا هذا ولا تلك: لا وطن متخيل كنت أرجأت ترسيمات تشكيله ليضاهي جنة عدن الملذات، ولا قرية تتجاذبني مراعيها وتعانقني رباها لتعينني على تحديث أيام الصبا. ربما كان مرد وضعي هذا يكمن في المسار المضطرم لحياتي التي انبنت على الترحل، وتأسست على المؤقت، الطارئ، المرتجل والمستعجل، الاعتباطي والعشوائي، وسلطة المصادفة والانطفاء المتوهج. ربما وإنما...اعتصمت بكبرياء (مناضل سابق) اكتوى بجحود العالم وظلم ذوي القربى، وانطوى على خيبة (اليسار) وانحسار أبعاد (القضية) وعلى انجراح كرامته في قومه من غير أن يعزي النفس باستذكارات فلكلورية طقوسية عن المكابدات والآلام التي تعرض لها الأنبياء والعباقرة في هذه الدنيا، فلا كرامة لنبي و... في هذه الغضون لم أعد أحس بالانتماء للعالم، ولا لوطن ولا لقرية أو جماعة أو قبيلة، وليس ثمة تل يتهادى أمامي ليعصمني وأحتمي به من هستيريا النيران الهاذية بشراهة مستنفرة لالتهام كل الأشياء والكائنات في طريقها، فالتلال محتلة ومغتصبة، ومزروعة بالصواريخ والمدافع ومخازن السلاح والمتراشقين بالحمم. وحين حسبت أني استعدت وعي نفسي –إن كنت وعيتها فعلاً- وقررت انتهاج سبيل الدفاع عن النفس، عانيت كثيراً ومازلت أعاني من الارتطام بصعوبات لا حصر لها، ومن التعثر المؤلم والمنهك لمحاولاتي السيزيفية لاستخلاص الاستراتيجية المطلوبة للدفاع عن النفس، لأن معرفتي وخبرتي المتراكمة انصبت في بناء الاستراتيجيات الكبرى المتعلقة بتغيير العالم، وفي إشعال الثورة من شرارة، وفي بناء البلدان والأوطان والأحزاب والجبهات والتحالفات، وفي تحويل الإنسان إلى قرد أو قنبلة أو حزام ناسف. ولم يخطر على بالي قط أني سأرتطم باليوم الذي سأفكر فيه بصياغة استراتيجية ضئيلة كهذه: الدفاع عن النفس. في كل الأحوال لم أجد بدا من التمسك بشعار (الدفاع عن النفس) ليس لأني رضعت من حليب الشعارات، وليس لأن طاقة العيش عندي تشتغل فقط على وقود الشعارات، بل لأني لا أملك غير هذا الخيار الذي ينبغي أن يتمسك به من يقبل بمجازفة البقاء على قيد العيش بين جداول الشوك والنار، ويقسر على الإقامة في بلاد هائجة مائجة بالأشباح وحملة السلاح الخفيف والمتوسط والثقيل والأبيض والأسود والرمادي.. بلاد من الخرائب والأطلال التي لم تعد تصلح حتى لكتابة البكائيات. الدفاع عن النفس ليس بالمهمة السهلة ويحتاج إلى تحصينات قنفد، واستشعار فأر، والى روية وتمارين قاسية، وترويضات تأهيلية. يحتاج لأن تكون قوقعة أو ذبابة ولسياقات أخرى لا تخطر على بال وهو شعار لا مناص من ارتدافه بالنسبة لشخص اعتاد الاقتيات على فتات الشعارات في كافة المراحل والمنعطفات، ولمن يروم الإفلات من حصار الشبهات والمتربصين والقناصة وهباء القبائل والعشائر المتقاتلة والقتلة الذين يتفشون في الأرجاء أكثر من الطاعون، ويتناهشون ويتراشقون بكرات اللهب وصخور الحقب، بضراوة الجوارح والجوائح، ويتحاشاهم عزرائيل وتتنكر لهم آلهة الحرب وأساطيرها. القتلة في هذه البلاد هم الفائض الأكثر غزارة والمنتج الذي يصدر إلى كافة البلدان من أفغانستان إلى البلقان والشيشان والعراق وسوريا ولبنان ويكاد لا يخلو أي بلد من بصمة الدم اليمني، ومن ضلوع اليمانيين في الانقسام بين فرقاء الحروب وأمراء الجهات والجبهات، ومع أي "نظام" ومع أي ثائرين على النظام. وهنالك الكثير من الحكام والوزراء والقضاة وأولياء الأمر الذين يتوحدون في صفة أنهم قتلة سابقون وأنهم (الكادر) الأوفر حظاً في اغتنام المناصب. المنصب هنا يستخدم لغسل السوابق، على منوال غسيل الأموال بالنسبة لتجار المخدرات والأسلحة المحرمة والمهربين. والقتلة هنا صاروا أكبر من حجم الطاقة الاستيعابية للبلاد وأكبر مما تحتاجه الحروب المشتعلة، والمؤجلة، وتلك التي لم تنشب بعد، وهم يتمتعون بالعفو من تهمة القتل العمد، ويغتسلون بالمناصب المحصنة، ويتحولون غالباً إلى "سفراء"، وأولياء أمر وخبراء في إدارة الحروب وتعظيم الخرابات وإشعال الحرائق، وخبراء في فك النزاعات وفبركة أشكال (الهدنة) والإشراف على مواثيق الصلح والسلام وتوقيعها بفتائل متحفزة للاشتعال بعد حقنها وتلغيمها بأسباب حروب سريعة الاندلاع أو حروب مستدامة و....الخ. إنهم يتقاتلون وما أن تنتهي الحرب التي يشعلونها فيما بينهم –أحياناً- وعلى غيرهم –غالباً- حتى تراهم يتفاوضون في نفس (المقيل) ويتحلقون على طاولة تسمى –غالباً- (الحوار الوطني) بحميمة وألفة قتلة سابقين. ويقومون بغسل أنفسهم وبعضهم، وبعد التدليك والتسميك يعلنون "التوافق" من أجل تسيير المرحلة الجديدة، ويخرجون ببيان "تاريخي هام" ل"الشعب. والشعب في هذه البلاد هو المصطلح الأكثر غموضاً والتباساً. هو كل شيء ولا شيء، وحمال لكل الأوجه وبلا وجه. في وضع كهذا يراد لك أن تمشي على رؤوس أصابعك وأن تتحسس رقبتك ورأسك في كل ثانية، وأن تنحت فرادتك في تدبر المستحيل و... *المنشور هنا مقطع من سرد طويل لا ينتسب لجنس الرواية ولا يلتزم بالمعايير المتعارف عليها للشهادة والسيرة الذاتية . ** كاتب وصحفي يمني، رئيس تحرير صجيفة التجمع