وقف الشاعر البحريني علي الشرقاوي نصيرًا للنخبة المثقفة في مواجهة اتهامها بعدم التفاعل مع القضايا السياسية ومساندة الجماهير خاصة في أحداث «الربيع العربي»، مؤكدًا أن النخبة المثقفة لم تبتعد إنما عزلها النظام السياسي عن تفعيل دورها، مؤكدًا أن الجميع يكرهون الثقافة ويخافون من المثقفين، مبينًا أن الربيع العربي حدث بسبب «نضج الداخل»، غير مستبعد كذلك وجود أيادٍ خارجية ساهمت في حدوثه، لافتًا إلى أن الوقت لم يحن بعد للكتابة عن هذه الثورات التي حدثت، مشيرًا إلى أن الكتابات التي تزامنت مع الأحداث لم تعطها حقها الكامل من البيان والإيضاح.. وحول تجربته الشعرية أوضح الشرقاوي أنها ترتكز بشكل أساسي على «المرحلة الرابعة» وهي حالة التأمل الروحي، مبينًا أن هذه المرحلة أوصلته إلى قناعة أن الموت هو القاعدة والحياة هي الاستثناء، مؤكدًا أنه توقف عن النظر إلى النقد كمرادف لتجربته الشعرية منذ فترة طويلة، رافضًا في الوقت نفسه فكرة إزاحة جنس أدبي لصالح الآخر في مقابل شيوع مقولة أن الرواية أصبحت ديوان العرب، مشيرًا إلى أن الرواية العربية بحاجة إلى الدخول في مغامرة جديدة بعد ظهور الدراما التلفزيونية.. العديد من المحاور حول تجربته الشعرية، ونظرته لواقع النقد العربي، وموقف السياسي من المثقف وغير ذلك من محاور في سياق هذا الحوار. * لم تغب قصيدتك عن الهم السياسي على اتساع رقعته محليًا وإقليميًا وعربيًا وعالميًا.. فمن أي الزوايا نظرت إلى ما شهدته الساحة مؤخرًا تحت مسمى «الربيع العربي»؟ كل ثورة لها مبرراتها ولها حلمها، وأرى أن أي ثورة لا يمكن أن تقوم إلا بتوفر عوامل نجاحها، وهو وصول الوضع السياسي إلى مرحلة حرجة، لا يمكن الاستمرار معه، أو لا يمكنه المواصلة، إنها درجة الغليان أو الصفر، بحيث لا يستطيع النظام أن يواصل مسيرته أكثر من ذلك، ولا يستطيع الشعب بكل فئاته وطبقاته الاستمرار على الوضع الذي يعيشه؛ أي إن تضافر الظروف الموضوعية والذاتية في مرحلة معينة هو الذي يؤدي إلى نجاح الثورة أو فشلها، بمعنى أن كل شيء في المجتمع وصل إلى درجة النصوح، مما يجعل الثمرة / الثورة لا يمكن إلا أن تحدث. * لكن البعض يرى أن ما حدث ويحدث جاء نتيجة مخططات خارجية؟ ربما تكون هناك في بعض الثورات إيادٍ خارجية من مصلحتها أن تتم الثورة في هذا البلد أو ذاك، ولكن النقطة الأكثر أهمية هي نضوج الداخل، وإذا لم تكن الظروف ناضجة ومهيأة، فإنها تسقط في أول مراحلها. كراهية المثقف * هذه الثورات حملت معها اتهامات مباشرة للنخبة المثقفة بالتقاعس والابتعاد عن المعترك السياسي والجماهيري على مدار نصف قرن.. على أي مسافة تقف من هذا الاتهام؟ إن النخبة المثقفة التي تتكلم عنها لم تبتعد، إنما عزلها النظام السياسي عن تفعيل دورها، انظر فقط إلى أغلبية المثقفين سياسيًا، كيف يعيشون حياتهم اليومية، وبالذات غير المنتمي إلى أحد الأحزاب، تراه مهشمًا من الجميع، من النظام السياسي ومن الأحزاب السياسية. هل تجد أن هناك ثمة اهتمام حقيقي بالثقافة عند النظام أو عند المعارضة؟ الجميع يكره المثقفين. الجميع يكره الثقافة، وإذا ما بدر من حزب أو كتلة سياسية شيء من الاهتمام بالثقافة فإنه اهتمام باليومي على حساب الاهتمام بالدائم. اهتمام بما يفيدني كحزب أو كنظام سياسي. الجميع يخاف من المثقف، لأنهم لا يستطيعون تدجينه بالصورة التي يريدون أن يرونه فيها، المثقف الذي يبحث عن التحليل الطويل مطرود من جنة واهتمام من حوله. المثقف الحقيقي دائمًا ما أراه مثقفًا كونيًا إنسانيًا حالمًا بمجتمع تسوده المساواة والعدالة والديمقراطية. قد تكون هذه نظرة مثالية. ولكن المثقف الحالم يعيش في إطار هذه الصورة، التي قد تتغير إطاراتها ولكن تبقى كما هي في أغلب الأحوال. ليس بعد! * هل يمكن لهذه الثورات أن تحدث متغيرات جذرية في المشهد الإبداعي العربي؟ عندما تكون داخل التجربة، لا يمكنك أن تراها بصورة جيدة، لذلك لا بد من الابتعاد عنها بعض الوقت ليمكنك قراءتها بنظرة محايدة، أنت في قمة الفرح لا تستطيع أن تكتب الفرح، وإن كنت في قمة الحزن لا يمكنك أن تكتب هذا الحزن، لأنك في الحالتين تكون تحت سيطرة الحالة النفسية التي لا تجعلك تتنفس. كذلك في الفعل الثوري، كل ما يمكن أن تكتبه لا يصل إلى ما وصلت إليه الحالة الثورية في المجتمع، من هنا ترى أن كل الكتابات التي تتزامن مع حدث الثورة، لا تعطي الثورة حقها، أو لا تكون في المستوى الثوري. الثورة من الممكن أن تخلق أدبها الخاص بها، لكن ليس بصورة مباشرة، أو مرادفة لها، لأن كل الكتابات ستكون كتابات إعلامية، مؤيدة. لنأخذ الثورة الروسية على سبيل المثال؛ كانت كتابات ما قبل الثورة أكثر ثورية، لأنها تحمل الحلم بها، أما بعد الثورة، فقد تحولت الكتابات إلى منشورات أو شعارات للثورة. لكي تجد الأدب الثوري، انتظر بعض الوقت، فالثورة لم تتضح معالمها بعد.. السياسي مؤقت أم الإبداع فهو نهر مستمر، لا يتوقف عن الجريان والتحول، اخرج من الفكرة لتراها كاملة أمامك. الإبداع يأتي قبلاً أو يأتي بعد الثورة. وقت الثورة أنت لا تستطيع إلا أن تكون مع ثورتك. اترك الإبداع لينضج على نار هادئة. نزوع صوفي * لِمَ يتكئ نصك الشعري بشكل كبير على نوازع التوجه الصوفي بمفهومه العام وليس الديني المحصور؟ الشعر قبل أن يكون موقفًا من قضية ما، هو صورة شعرية، بلاغية، متخيلة، ولذلك عندما تنظر إلى الكلمة، لا تعتبرها أداة تواصل بين الإنسان والإنسان، إنما أداة تشحن الذات العاشقة لكل ما حولها بطاقة الحياة وطاقة الحلم وطاقة الجدة والمغايرة والتميز. لذلك أنت كشاعر تبحث عن كل ما يستطيع أن يدفعك إلى المغامرة والذهاب عميقًا في الحلم.. الصوفية وبالتالي كل الرحلات الروحية الداخلية والخارجية ، تأخذك إلى أقاليم جديدة، وأنت تعرف جيدًا أن ذهابك إلى مكان ما، مدينة لم تزرها من قبل، أو علاقة جديدة مع إنسان، أو نظرة جديدة من زاوية لم تتعود أن تنظر بها من قبل، كل هذه الأمور تحرك الجامد في الذات. إن الرحلات في مجاهل الأقاليم الجديدة ساهمت، ومازالت تساهم، في شحذ المحيلة لرؤى جديدة وأحلام ما كانت على البال.؟ كل توجه صوفي حقيقي، كما أرى هو توجه للديمقراطية والمساواة والعدالة. لأن طبيعة الصوفي الحقيقي هي الوصول إلى مرحلة العشق الإلهي، ولأن الله محبة، فكل ما يقع في الكون والمجتمع والإنسان انعكاس لهذه المحبة الكونية. الصوفي إنسان كوني، قبل أن يعرف الآخرون معنى النظرة الكونية للوجود. القاعدة والاستثناء * كثيرًا ما تردد أن قصيدتك ترتكز علة «التجربة الرابعة».. فماذا تعني بذلك؟ المرحلة الرابعة هي مرحلة الغوص الروحي، فأنا أرى إن الإنسان قبل إن يكون جسدًا ماديًا مرئيًا ملموسًا محسوسًا، هو روح. هذه الروح جاءت إلى الأرض من أجل التعلم والعودة إلى بيتها، وهي تحمل تجارب إنسانية تساعدها على الارتقاء الروحي. أنت لو استطعت التعامل مع ما حولك بنظرة روحية ستجد أن الحياة التي تمر بها ليست إلا عبارة عن حلم، سترى أن الموت، بكل إشكاله وتعدد أسبابه، ليس إلا جزء أساسيًا من الحياة، بل هو القاعدة وما الحياة إلا استثناء. التوغل في العوالم الصوفية والروحية من الممكن أن يقذفك إلى جزر جديدة، واكتشافات خاصة بك، يرفضها كل من لا يعرف التعامل مع الروح. * هل معنى ذلك أنه لابد لأي مبدع من نهاية مطاف.. أم التجارب لا تتوقف إلا بانقطاع صرير القلم؟ الإبداع لانهاية له. لا مطاف، خاصة لمن يرى خيط الإضاءة يمتد إليه من كل جهات الأرض. حتى القلم الذي تتكلم عنه، في واقعه ليس إلا أداة من أدوات الفعل، ما دمت تتنفس، ولم تصب بالزهايمر، وتشعر بتدفق طاقة الحياة في خلاياك / ستبقى الإنسان الحالم باكتشاف ما لم يكتشف. * الساحة الإبداعية الحالية أدخلت الشعر والرواية في إشكالية من أحق ب»ديوان العرب».. فكيف ترى مثل هذا الصراع؟ دائمًا هناك ثمة علاقة بين الشعر والرواية، من الممكن أن تسميها علاقة جدلية، ما أن يرتفع أحدهما ينزل الآخر، وتذكر ما يسمى بعصر الانحطاط، والذي اعتبر انحطاط للشعر، لأنه بدأ الولوج في تجارب مخالفة وجديدة على روح الشعر التقليدي. في الواقع لم يكن هناك انحطاطًا، بل الدخول إلى مرحلة جديدة من مراحل الشعر، لذلك انتعش الشعر العامي وقفز قفزات هائلة، وبدأت مرحلة الاهتمام بالشكل أو بالصورة وبالرسومات، وبالاهتمام بلعبة اللغة، فرأينا ازدهار المقامة، كشكل من إشكال الرواية، وبدأت أيضًا مرحلة جديدة من الحكي التي رأيناها في الملاحم العربية، سيرة أبوزيد الهلالي، وسيرة سيف بن ذي يزن، وسيرة الظاهر بيبرس، وعنترة بن شداد، بالإضافة إلى قصص إلف ليلة وليلة، والأميرة ذات الهمة، وغيرها، والتي نقلت المجتمع العربي إلى عالم جديد هو عالم الملحمة الشعبية. وكما نقول ونردد لكل زمن دولة ورجال، أيضًا من الممكن أن نقول لكل زمن شكل من إشكال الإبداع. ولكن لا شيء ينتهي، لا شكل ينفي شكلاً آخر ويقضي عليه. سيطرة وتراجع * لكن ألا ترى أن الرواية باتت تتسيد الموقف باعتبار عوالمها الرحبة؟ ربما إن الرواية كما قلت سابقا، تتسيد الموقف لبعض الوقت، ولكن ليس كل الوقت، أنت تلاحظ الآن أن الرواية التي كانت قوية ومسيطرة على بقية الإشكال الفنية في الكتابة، أخذت في التراجع أمام الدراما التلفزيونية، والتي سيطرت على المشاهد، وتأثير الرواية لم يعد كما كان كبيرًا، فدراما (رأفت الهجان) أو (ليالي الحامية) جعلت أكثرية الناس يجلسون في بيوتهم، مشدودين إلى مقاعدهم، أو على الأرض، لمتابعة إحداث المسلسل. أي رواية مكتوية أثرت في الناس كما أثرت هذه المسلسلات الروائية الدرامية. تدرج وليس طفرة * إلى أي سبب ترجع ما يشهده الخليج العربي من طفرة على مستوى الإبداع الكتابي؟ ربما إن الإبداع كالحياة تمامًا، وإذا كانت مدن المركز قد استطاعت أن تكتشف الجديد في الفن والكتابة المغايرة، فإن هذه المدن بعد ذلك تستقر، وتكرر التجارب السابقة، فيما مدن الهامش تبدأ فتية حالمة طامحة في أن يكون لها صوتها الخاص المغاير المختلف، لذلك من الممكن إن تقول هناك ثمة طفرة، وأنا شخصيًا لا اعتبرها طفرة، بقدر ما هو تدرج طبيعي، يتبع قوانين الحياة، حيث العمل على نار هادئة من أجل الوصول إلى طبخة ناضجة وتستحق أن توضع على مائدة الحياة. بحث ومغامرة * من واقع اطلاعك.. هل ما زال المغرب العربي محتفظًا بنكهته الروائية الخاصة؟ الحياة دائمة الحركة ودائمة التغير. لا شيء يبقى كما هو عليه إلى نهاية العالم، الرواية في المغرب، أو في المشرق، أو في أي مكان من هذا العالم، تمر هي الأخرى في حالات الكمون، في تصوري إن الرواية، بعد دخول الدراما التلفزيونية، لا بد لها من البحث عن طرق جديدة، لا معنى أن أكتب رواية تحمل نفس ملامح العمل التلفزيوني. لابد من المغامرة والبحث عن طريق غير مطروقة في العمل الروائي. لا بد من البحث عن إشكال جديدة تواكب عصر الثورة التكنولوجية والاتصالات بين العالم. لابد من البحث عن شكل جديد للرواية والشعر والمقالة والفن التشكيلي والموسيقى وغيرها من الفنون. ما يصلح للامس لا يصلح لليوم. نظرة تجاهل * النقد في الوطن العربي تحكمه الشللية.. قول ينتظر تعليقك؟ النقد بصورة عامة يقوم على شكل منجز. أي إنه يتكأ على إبداعات الآخرين. من هنا إن لم تكن مكتشفًا جيدًا لومضات يشعلها النص، فأنت لا تضيف جديدًا. أما عن الشللية فأنا شخصيا لا أهتم بها، تحت نظرة إن العمل الجيد سوف يبقى جيدًا، حتى إن لم ينصفه مجايلوه أو من عاشوا معه. تذكر كيف نظروا إلى المتنبي، واعتبروا تجاربه مسروقة، تحت عنوان (سرقات المتنبي)، وانظر إلى أبوتمام وغيره من الشعراء في كل زمان ومكان. الشعر الجيد سوف يبقى جيدًا، وما عليك إلا تنظر إلى النظرات الجديدة في وتجارب مرت عليها عشرات القرون. أزمة النقد * في ضوء ما تقول.. هل تحس أن النقد العربي يمر بأزمة؟ مشكلة النقد في بلادنا العربية أنه ما زال في مرحلة التنظير، وأدواته مازالت ناقصة في حالة التطبيق على بعض التجارب. النقاد يخشون الدخول في قلب التجارب، فهي متقدمة على الأدوات التي يستخدمونها في حالة التطبيق، يتحدثون عن النظريات ولا نرى أثر تطبيقها على تجارب شعرائنا. قل كم دراسة حقيقية طبقت على تجربة بدر شاكر الثياب، أو عبدالوهاب البياتي، أو صلاح عبدالصبور، أو أحمد عبدالمعطي حجازي، أو أدونيس، أو قاسم حداد. حتى على المستوى الأكاديمي لا تجد مثل هذه الدراسات. انظر إلى التجربة النقدية الفرنسية وكم عدد الدراسات التي تناولت تجربة الشاعر آرثر رامبو. رغم أن كل ما كتبه لا يتعدى ثلاث مجموعات شعرية ونثرية. لا لهاث * بعضهم يرى أن الإبداعات الشابة تلهث وراء المدارس الغربية.. فما قوله؟ كل ما يجري في هذا العالم هو لك، لا وجود لما تسميه اللهاث. أنت كشاب تحتاج إلى قراءة ما حولك، ليكون لك صوتك الخاص والمتميز والمغاير لما سبقتك من أصوات، في الشعر، في القصة، في الرواية، في الفن التشكيلي، في الموسيقى، في كل الحياة التي نحيا، لا بد أن تكون أنت وليس سواك.