هل تتأثر المشاعر العاطفية بالبرد، فتتجمد في ثنايا القلب وخلجاته مثلما يتجمد الماء في الأوعية الباردة، أم أن مثل هذا التأثير لا يطالها أبداً، فتحافظ على حيويتها ونشاطها في كل حالات الطقس على مدار فصول السنة؟! ربما أن المشاعر لها وضع مختلف، فهي تتأثر فقط بحسب القلوب التي تحتويها، فتصل إلى درجة الجمود، لذلك دائماً ما يحاول اشعراء والمحبون اقتناص الفرصة المناخية لفصل الشتاء، لإيصال رسالة إلى شركاؤهم في العلاقة العاطفية أن مشاعرهم فقدت حيويتها وأصبحت شبيهة بقسوة جو الشتاء وجموده وبروده.. وفي نفس الوقت يجد الشعراء في برودة الشتاء، وخصوصاً خلال شهري كانون الأول وكانون الثاني (ديسمبر، ويناير) من كل عام وهما الأشد برودة، فرصة لمخاطبة الحبيب ومطالبته بالعودة والرجوع ليلتمسون في حضنه دفئاً يقيم برد الشتاء الذي لا يمكن لوسائل التدفئة الأخرى في ظل غيابهم أن تجدي نفعاً.. وهو ما تعبر عنه أغنية “بردان” أصدق تعبير: بردان.. بردان أين الحب يدفيني يا برد كانون يكفيني الذي فيني بردان والحب وسط الثلج ضميني ليت الحزيران في كانون يأتيني بردان والحب في دمي مش رعاش بردان بالشمس حتى الشمس ما تحماش غيري دقي وعندي دفئها ما جاش دقي بها الناس والاطيار في الأعشاش روحي بغيرك حبيب القلب ما تدفاش في كوانين تثير موجة البرد والصقيع لوعة الكثير من المفارقين لأحبابهم، فتسرج شمعة الأشواق في القلوب، وتشعل جذوة الحنين إلى لحظات الدفء العاطفي المقترن بالوصال فيغدو الحلم الأبرز لهؤلاء الأحبة لا يتجاوز لحظة الارتماء في حضن الحبيب، للشعور بالدفء والحنان، والتخلص من وطأة الصقيع والبرد القارس الذي يتغلغل في الأعماق بقسوة: لا سامحك وابرد في كوانين لا حضن شدفا به ويرتاح بالي ساعة ورى ساعة وحين ورا حين وما لقيت إنسان يرحم لي حالي صفعة الصقيع تبدو أكثر تأثيراً لدى الرجال، الذين يشعرون برغبة عارمة إلى دفء الاحضان، لكن تحول بعض المهام الموكلة إلى الرجل دون تمتعه بوقت راحة بقضية إلى جانب امرأته.. أحد الفلاحين الذين يقومون في ليالي الشتاء بحراسة مزروعاتهم من الهوام والحيوانات الليلية، يحاول إيصال رسالة إلى امرأته بتأثير البرد عليه، فما كان منها سوى الإحساس برغبته الحقيقية وتلبيتها بطريقة ذكية جداً، فالمعروف أن الفلاحين الفقراء كانوا ينامون داخل أكياس وخصوصاً خارج البيوت فهتف الفلاح زوجته: هاتي بدال الكيس هذا طربال البرد دوَّخ بي والليالي طوال هيا اسرعي ما في أحد مكاني لا عاد يجي طاهش يعشي الأحوال فترد عليه الزوجة بذكاء وقد استشعرت حاجته للدفء: خلك معي الليلة شندفا كرَّة كم شيوكل الطاهش ما هي إلا مرة كم يا ليالي وأنت فيها تسهر تخلني وحدي أجلس مفسر وفي ليلة شتائية قارسة من ليالي كوانين، تستبد مشاعر الحاجة إلى دفء الاحضان بحبيب مفارق، تنساب في سكون الليل رغبته الكامنة في أبيات شعرية معبرة: أين الحبيب جسمي صقع من البرد عظمي يصر واتناصلين سنوني يا ناس أنا صبري قد جاوز الحد قلبي حزين والنوم هجر عيوني لكن ماذا لو كانت مشاعر الوحدة والوحشة التي يعاني منها عاشق متيم، ناتجة عن تصرفاته غير المحسوبة، وردود الافعال الطائشة التي أدت به في نهاية المطاف إلى مكابدة ليالي الضريب (الصقيع) وحيداً، من سيتعاطف معه طالما هو الجاني على نفسه: قولوا لمن قد تحملته سنين وكنت أحلم بوصله كل حين قولوا لمن قد حرمني من لقاه يستاهل البرد من ضيع دفاه والشطر الأخير من هذه الأبيات هو مثل شعبي شهير يضرب في من كان سبباً في أية معاناة تعرض لها بفعل سوء التصرف.. وتثير قسوة الشتاء ذكريات الفصول الأخرى، وتبعث في النفوس أشواقاً إلى أوقاتها المفعمة بالدفء والجمال: برد الشتاء قاسي في نهاره وليله مقدر يغني فيه على الغصن عصفور يرد الشتاء ساعات ليلة طويلة وين الربيع وين الأزهار والطيور ويخاطب أحد العشاق حبيبه الذي غاب عن عينه بينما الحاجة على حضنه تشتد مع اشتداد الإحساس بالبرد: شلني بالحضن من برد الشتا دفيني لا صارت الدنيا جليد ضمني بيدين مليانه دفا وهات لي حبك وغيره ما أريد لا متى شصبر حبيبي لا متى وانت واصل عن عيوني بعيد ومع برودة الطقس، وسكون ليالي الشتاء تأبى دموع الحزن إلا أن تتسلل خلسة إلى خد الحبيب المفارق، الذي يسرى صوته الحزين في ظلام الليل قائلاً: برد الشتاء ودمع الحبيب جاري حزني على من فجعني رحيله ألملمك يا جرح قلبي واداري واسايرك واقول من هو يزيله برد الشتاء زاد وابكاني حنين البرد ذكرني بالليالي الجميلة ورغم شكوى العشاق والمحبين والشعراء من البرد والحنين إلى دفء الاحضان، إلا أن كل كلماتهم لا تجد صدى إلا لدى من لديه نفس المشاعر والأحاسيس الوجدانية: تهنا بأيام الشتاء والشتا برد يا ورد ما مرك دفا العمر يا ورد برد قلبك ما يحسده إلا من سكن في شغافه والدفء قلب ما هو صوف وإلا لفافة ويخاطب شاعر مشتاق حبيبته مناشداً لها أن تقدر مشاعره وحاجته إليها وإلى الدفء في أحضانها فيقول: يا حياتي إرفقي بي واتحملي برد كانون مشاعري صارت بعد دفء الليالي صقيع كل شيء في سبات الشتاء صار مغبون ورعشة أصابع يدي في وحشته خوفاً مريع وتبدو في هذه الأثناء متناقضات كثيرة تحول البرد إلى لوعة وحريق ونار تكوي القلوب ومن ذلك قول الشاعر: بعدك في ثنايا برد ليلي حريقي في شغاف القلب نائم ما يفيق صاحبي قلي كيف أسوى بدونك وانت ساكن وسط روحي والعروق وهكذا يصبح برد الشتاء، وصقيع كوانين، ملهماً للشعراء والعشاق، لتخليد مشاعرهم التي تأبى الخضوع لبرودة الطقس وقسوته بل تثور حنيناً وشوقاً وتوقاً إلى دفء الأحبة..