في صنعاء تبدو الأشياء مغايرة لما اعتدته في تعز..كالبرد والحب والليل وأشياء أخرى ألفتها في مدينتي الأولى تأتي هنا مقنعة بوجوه دخانية «البرد أبرد مايكون» و«الحب ..والليل أسهد مايكون».. البردوني حين قال ذلك عاش حالات برد متعددة..وهنا كان البرد أبرد!! صنعاء مدينة تألفها وتألفك..مدينة تعانقها عند كل صباح حين تشتد رعشة البرد وتطوقك يداه الغائرتان في تشققات جسمك الغض الطري!! باعتبارك رجلاً جئت من أقصى مدينة تعطيك من الدفء الكثير..ومن البرد أقل مايكون!! تحتفل تعز هذه الأيام ب «الفضول» وأحتفل والكثير من الأصدقاء هنا بالفضول أيضاً وبمعية الفنان عبدالباسط عبسي وأغنيته الشتائية الجميلة برداااااان، وصوته الدافئ جداً..عند كل محطة نوم أبدأ في ترديد الأغنية وعند كل صباح أبدأ يومي ب.. بردان بردان أين الحب يدفيني يابرد كانون يكفيني الذي فيني..الخ الفضول حين قال قصيدته تلك كان في صنعاء كما قالت ملهمته «عزيزة النعمان» حيث كان المطلع نتاج حديثه التلفوني معها ليقول لها «أنا بردااان» ليمضي بعد ذلك في إكمال قصيدته الصنعانية المولد: بردان بالشمس حتى الشمس ماتحماش غيري دفيها وعندي دفئها ماجاش دفي بها الناس والأطيار بالأعشاش روحي بغيرك حبيب القلب ماتدفاش!! ليس ثمة أجمل من هذه الأيام للتغني والتداخل مع هذه الأغنية وليس ثمة أجمل من أن يحتفى بالفضول في أيام «كانونية» كهذه ولأكثر من مرة أتصور مهرجان الفضول هنا في صنعاء غير أني أتراجع عن حلم «ساذج» يرتكز على العاطفة والأنانية ولاسواها كوني هنا أحلم بالمهرجان بالقرب مني! تعز مدينة تستحق «الفضول» وهي الأخرى يستحقها «الفضول» شاعر الحب والثورة والوحدة كما جاء في عنوان المهرجان هو شاعر بألف عام على حد المرحوم عبدالرحمن طيب بعكر وشاعر الحنين والظمأ العاطفي كما قال الكاتب محيي الدين علي سعيد فتعز التي عاشها وعاشته هي نفسها المدينة التي تغزل بها كثيراً وجعلها موال عشق أبدي وكانت هذه لفتة رائعة من اتحاد الكتاب يشكر عليها رغم الأخطاء التي شابت المهرجان.. ولكنه جهد يشكرون عليه رغم كل مايقال!! الفضول شخصية ظلمت كثيراً كما قال الفنان الرائع أيوب طارش أطال الله في عمره وقد يمثل مهرجانه الأخير « مهرجان رد الاعتبار » مفتتحاً أتمنى أن يكون كذلك لمهرجانات قادمة وأتمنى حقيقة أن يكون تظاهرة سنوية يتوافد إليه الشعراء والأدباء والنقاد ليحتفوا بعظمة هذا الشاعر الكبير. البرد هذا الكائن يجرجرني للحديث عن أشياء كبيرة.. يجعلني أهذي كثيراً على الورق.. وأرتعش كثيراً..وأحلم كثيراً وأتمنى رحيله كثيراً ..حالة البرد التي أعيشها بمعية أشياء كثيرة أستدعيها في حالات اشتداده وغوره في تشققات جسدي استدعي أحضاناً تبث الدفء وتعيد للزمن حيويته وأستدعي أغاني تعبر عن حالتي «البردية» بشكل أو بآخر!! البرد الذي جعل عبدالله عبدالوهاب نعمان «الفضول» يستدعي حبيبته التي بغيرها روحه لاتدفأ هو ذاته البرد الذي يرعبني ذكره، مجيئه، وحتى تذكره لارتباط الوعي الذاتي لي بأشياء تأتي محملة بأطنان من حالات إعياء ووعكات صحية متتالية..ودون علم مسبق تجد نفسك واقعاً بين فكي برد قاسٍ لايرحم..يسقطك في غياهب المحاكاة والتذكر والاستدعاء والنوم بأشكال مثيرة للغرابة حيث إنك تتكور محتضناً ركبتيك..وضاماً إياهما إليك لتشعر بالدفء الجاذب للنوم فقط!! مانصاب به جراء البرد أشياء تستدعي القلق الفعلي..حيث صحتك تتدهور..وفاعليتك تقل وحتى معنوياتك تتراجع بشكل مخيف!! وتعاني حالات مرضية كثيرة في آن :صداع، زكام، وحلق يصبح غير قادر على المضغ والصداع المشل لحركة الرأس المدورة فوق أجسامنا. يحط رحاله، وإن كانت هذه الرأس كبيرة بمافيه الكفاية..فلا شيء بمقدوره التصدي لقوة وحجم البرد وبرودته أيضاً!! أحياناً يستدعي الأمر العلاج أو على أقل تقدير صيدلية تضم صيدلي حقيقي! لتخرج باحثاً عن صيدلية قريبة منك أو تبعد أمتاراً لتجد نفسك تقطع مسافة كبيرة بحثاً عن صيدلية من المفترض أن تكون مفتوحة على مدار 24 ساعة تنسى مدى ماوصلت إليه حالتك الصحية وتظل تبحث عن صيدلية فقط!! ومازلت تغني «بردان..بردان».. بالمناسبة كان وقت البحث في الصباح الباكر..يبدو البرد سبباً مقنعاً في مضي أصحاب الصيدليات في الإغراق بالنوم «وطز» بالمرضى والمصدعين أمثالي!! وحده صديقي «بكيل» من استيقظ مجبراً معي ووجد نفسه يضحك لاشعورياً بسبب كثرة لوحات «دكاكين الصيدليات» كإشارة على وجودهن ولا وجود لهن في ذات الوقت! ومازلت مضطرباً جراء الانتشار الكثيف للصيدليات..وحالات الإغلاق التام لهن.. ربما ثمة اتفاق فيما بين أصحاب الصيدليات..على تجويع المرضى حتى يدركوا أهميتهم!! وربما الأمر لايعدو عن كونه سرحاناً في النوم فقط! كي لا أكون سيئ الظن!! «البرد أبرد مايكون» «وبردان..بردان أين الحب يدفيني» ملجئي الوحيد هنا. «الفضول» يؤنس وحشتي..ووحدتي ويكسر رتابة الجو..وتحجر الأجسام..وتثلج الفراش..وتصدع الرأس.. «الفضول» يؤنسن الوحشة..ويجعل من البرد كائناً له حضوره كونه يجبرك على تذكر من يحب واستدعائه أيضاً والصيادلة يتلذذون بتعذيبنا هنا في صنعاء يغلقون صيدلياتهم ويتناوبون على حرماننا من حق أخذ حبة الدواء عند كل برد يأتي محملاً بالصداع!! قفلة!! أحمد الله على كل حال و على كل ب ر د