عبدالوهاب قطران في زمن طغى فيه الحديث عن الذكاء الاصطناعي، حتى قيل إنه سيحل محل الإنسان، ويفكر عنه، ويكتب الروايات والمسرحيات والقصائد والبحوث، بل ويصوغ المرافعات والدفوع والأحكام القضائية، لا بد من وقفة عقلانية تضع الأمور في نصابها، وتُعيد الاعتبار للعقل البشري، سيد كل آلة وأداة. أن الأدوات، مهما بلغت من تطور وتعقيد، لا قيمة لها إلا في يد من يحسن استخدامها. فالعقل البشري، بوعيه، وخياله، وذاكرته، وحدسه، وتجاربه، هو المصدر الأول والأخير للإبداع والمعنى. نعم، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُدهشنا ولكن الذكاء الاصطناعي – مهما بلغ من تطور – يظل مجرد أداة، وسيلة مساعدة، لا تملك قيمة في ذاتها، إلا إذا وجدت بين يدي إنسان مبدع، متعلم، مثقف، ماهر، قادر على التوظيف والتوجيه والإنتاج. حاله في ذلك حال كل أدوات التطور التي عرفتها البشرية، منذ القلم والسيف، وحتى الطائرة والكمبيوتر والهاتف الذكي. فما قيمة القلم في يد الأمي؟ لا شيء. القلم لا ينفع من لا يُحسن القراءة والكتابة، ولا يُبدع في صياغة الجُمل، ولا يُتقن التعبير عن فكرة أو تصور أو موقف. القلم وحده لا يصنع كاتبًا. كما أن السيف في يد "العجوز " العاجز لا يدرأ خطرًا، بل قد يضحك عليه الخصم. وهكذا الأمر مع الطائرة إن كانت في يد من لا يعرف أُسس وقوانين الطيران، أو الكاميرا في يد من لا يُدرك أسرار الضوء والظل. الذكاء الاصطناعي لا يختلف عن هذه الأدوات. هو خزان ضخم للمعلومات، لكنه بلا وعي ولا وجدان ولا حدس. لا يملك حلمًا ولا خيالًا، ولا يعرف الحب أو الحزن أو الخذلان. فكيف يُنتظر منه أن يخلق فيلسوفًا أو شاعرًا أو أديبًا؟! دعونا نضرب مثلًا: رجل أمي، لا يقرأ ولا يكتب، لو جلس إلى الفيلسوف الاغريقي العظيم أرسطو طاليس عامًا كاملًا، هل سيغدو فيلسوفًا؟! كلا. لأن فاقد الشيء لا يُعطيه. بينما لو جلس فيلسوف ناضج ورجل عصري مثقف واسع الاطلاع إلى أرسطو، لاستخرج من أعماقه كنوزًا، وأثّر فيه وتأثّر به، لأن الحوار بين ندّين، لا بين النقيض ونقيضه. نعم الذكاء الاصطناعي قد يمكن بقدراته في كتابة نصوص مركبة أو توليد أفكار مبتكرة أو حتى مجاراة الشعراء في القافية والوزن، لكنه في نهاية المطاف يفتقر إلى "الوعي بالمعنى" و"تجربة الألم والأمل"، وهما جوهر كل فكر وأدب عظيم. الذكاء الاصطناعي لا يملك تجربة طفولة، ولا إحساسًا بالخذلان، ولا توقًا للحب، ولا شعورًا بالغربة، ولا اشتياقًا للأم أو الأرض أو الحبيبة. هو لا يحلم، ولا يخاف، ولا ينكسر. وهذا ما يجعل الإنسان لا يُستبدل. و يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد الكاتب، لكن لا يمكنه أن "يصنع" منه كاتبًا، إن لم يكن في الأصل يحمل نواة الإبداع، وعشق المعرفة، والقدرة على التأمل والتحليل والتساؤل. كما لا يمكن لمجلس كامل من الحكماء أن يجعل من جاهل فيلسوفًا، لا يمكن لأعظم تقنيات الذكاء الاصطناعي أن تصنع من إنسان عادي شاعرًا مفوهًا أو مفكرًا ثاقب النظر. وكذلك الذكاء الاصطناعي: لا ينفع الجاهل، ولا يخلق من رجل عادي كاتبًا أو مفكرًا أو روائيًا. لكنه قد يُصبح أداة مبهرة في يد مبدع أصيل، يستخدمه ليُوسّع أفقه، أو يُنقّح نصوصه، أو يُطوّر أساليبه. شرط أن يكون الأصل موجودًا: العقل، الموهبة، الوعي، التجربة، الخيال، والشغف. الذكاء الاصطناعي مرآة. تعكس ما أمامها. فإن وقف أمامها مبدعٌ، زادته إشراقًا وتألقا. وإن وقف أمامها فارغٌ، أعادته فراغًا. فلا تُراهنوا على الأدوات، بل على الإنسان الذي يُحسن استخدامها. ولا تخشوا من الذكاء الاصطناعي، بل استثمروا في الإنسان، فهو الأصل، وهو الفنان والسر الاعظم، وهو المبدع الأول والأخير. بالمختصر: الذكاء الاصطناعي مرآة. لا تعكس شيئًا إن لم يكن أمامها شيء. إن وقف أمامها رجل مبدع، صقلت موهبته، وإن وقف أمامها فارغ، أعادته فارغًا. فليظل الإنسان هو الأصل، والعقل هو السيد، والتجربة هو المعلم الأول. من حائط الكاتب على الفيسبوك