محمد المخلافي في التسريحة، ستجد كيسًا هاربًا من ذاكرة السوق، طارَ وتناغمَ مع الريح، يعرفُ وجهتهُ أكثرَ منّا جميعًا، اعترضتْه أغنيةٌ عالقةٌ في السماءِ، فجلسا معًا على سطرٍ من الغيم، يتبادلانَ كلماتٍ لا تفهمُها الأرض سوى من حنين المزاريب. بهذا النص الجميل، أستهل مقالي عن ديوان "تسريحة الظلام الأخيرة" للشاعر اليمني الشاب وليد سند، القادم من قرية بيت عجاج، تلك القرية التي تعانق السحاب في أعالي جبال كحلان الشرف بمحافظة حجة. في أحد نصوصه، وصفها بأنها تقع خارج الخريطة، حيث لا تعرفها الدولة إلا في مواسم جمع الزكوات والضرائب، وكأنها طيفٌ يظهر وقت الحاجة ويختفي بعد ذلك. تقدم الأبيات الافتتاحية صورة شاعرية تحمل رموزًا تلامس شغاف القلب. فالهروب من ذاكرة السوق يعكس الشعور العميق بالفقدان والهزيمة في مجتمعٍ لم يعد يعرف نفسه وسط زحام التغيرات. أما تناغم الكيس مع الريح فيمثل البحث عن الحرية الذي يسكن كل يمني، بينما الأغنية العالقة في السماء تُبرز شعلة الأمل التي لا تنطفئ حتى في زمن الحرب، مما يسلط الضوء على الفجوة المؤلمة بين المشاعر الدافئة والواقع القاسي. صدر هذا الديوان عن دار سند للطباعة والنشر في صنعاء، هذا العام 2025، ليقدم للقارئ 157 صفحة من القطع المتوسط، تحمل بين سطورها أنفاس شاعر عاش الواقع المرير ورسمه بكلمات تبحث عن الجمال في قلب المعاناة. قراءة في دلالات العنوان يحمل عنوان "تسريحة الظلام الأخيرة" دلالات عميقة ومعقدة، حيث يجمع بين عنصرين متناقضين: "التسريحة" و"الظلام". كلمة "تسريحة" تفتح الأفق على مفاهيم الجمال والتنسيق، فهي تشير إلى عملية تجميلية تُعنى بالتحسين والتغيير. لكن عندما تُقرن ب"الظلام"، يتحول المعنى إلى شيء أكثر عمقًا وإيلامًا. هنا، يتجسد الظلام كرمز للمعاناة والفقد والضياع الذي يعيشه الإنسان اليمني. الظلام في هذا السياق يُفهم كحالة نفسية تعكس الصراعات الداخلية واليأس الذي قد يلف الروح. إنه يمثل تلك اللحظات التي نشعر فيها بالوحدة القاتلة، حيث تصبح الحياة كأنها تسريحة غير مكتملة، تفتقر إلى الجمال والتوازن. في هذه "التسريحة"، نجد أن الجمال يتلاشى في خضم الفوضى، مما يعكس واقعًا قاسيًا يعيشه الشاعر ومجتمعه. "الأخيرة" في العنوان تضيف بعدًا إضافيًا من العمق، فهي تشير إلى نهاية ما، سواء كانت نهاية مرحلة أو لحظة من الألم. قد تكون هذه النهاية تعبيرًا عن الاستسلام أو التقبل، حيث يختار الشاعر أن يواجه الظلام بدلاً من الهروب منه. إن استخدام كلمة "الأخيرة" يطرح تساؤلات مؤلمة حول ما يعنيه أن تكون في نقطة تحول، وكيف يمكن أن تكون العواقب مؤلمة ولكن ضرورية للخلاص. بساطة اللغة وعمق المعنى يمتاز وليد بأسلوب شخصي صادق يعكس تجاربه الحياتية ومشاعره العميقة. ينسج كلماته بلغة بسيطة لكنها مؤثرة، مما يجعله قريبًا من القارئ كصديق يشاركه همومه. يأخذنا في هذا الديوان – وهو باكورة أعماله – إلى معاناته اليومية، حيث يعيش الناس تحت وطأة الحرب والضياع، لكنه ببراعة فنية يجمع بين الألم والأمل، مانحًا القارئ فرصة لفهم التحديات التي تواجه المجتمع اليمني من خلال عين شاعرٍ يعيش التفاصيل ويترجمها بإحساس مرهف. تنوع التجربة الشعرية ينقسم الديوان إلى أربعة أبواب تعكس تنوع تجربته الشعرية. الباب الأول "نبوءة التراب" يتناول حال المواطن والواقع المرير الذي تمر به البلاد، بينما الباب الثاني "تصرفات فردية" يغوص في مشاعر ووجدان تتسم بالحزن والعمق الإنساني. أما الباب الثالث "نجمة وأغنية" فيستكشف المشاعر بطريقة جديدة ومواضيع أكثر واقعية، ليكون الختام مع الباب الرابع "نصوص على حافة القصيدة" الذي يتناول بعض الشخصيات المؤثرة في الديوان، مما يضفي عمقًا إضافيًا على النصوص الختامية. ما يلفت في هذا الديوان هو ترتيب النصوص بطريقة متناسقة، حيث ترتبط كل قصيدة بطريقة غير مباشرة بالقصيدة التي تسبقها. ماذا في التسريحة؟ ستجد اسمًا زائدًا عن الحاجة، أتيتُ به كما يُؤتى بحقيبةٍ مهترئةٍ تحمل غبار الطرقات وخرائط لا تقود إلى بيت وليس لها وطن. هنا، يتجسد شعور الفقدان والضياع بكل مرارته، حيث يصبح الاسم رمزًا لحياة مشوشة تحمل في طياتها ذكريات مؤلمة وأحلامًا مكسورة، وكأن الشاعر يحمل هويته كعبءٍ ثقيل في مجتمع لا يعترف به إلا رقمًا في سجلات الضرائب. ستجد أغنيةً لم تتعلم الوضوء بعد، وفتاةً تُراوغ ظلَّها هربًا من ثقل كينونتها، وجبلًا يُمسك بجلباب غيمةٍ ويستحلفها أن تمطر على قلبه. هذه الصور تعكس ذلك الصراع الداخلي الذي يعيشه الإنسان اليمني، حيث تتجلى الرغبة في الخلاص والتواصل مع ما هو أكبر من الذات. الأغنية، التي لم تتعلم الوضوء، تمثل النقاء والفطرة التي لم تُفسد بعد، بينما الفتاة، التي تفر من ظلها، تعكس هواجس الهوية والوجود التي تطارد جيلاً كاملًا. ستجد على الأرصفة موتى بلا أكفان، وعلى الباصات موتى بلا وجهة، موتى ينسلّون من أعين المارة كما تنسلّ الأسئلة من فم الليل. يبرز هنا واقع الموت والغياب بكل قسوته، مما يعكس قسوة الحياة في مجتمع فقد الكثير من معانيه. الموتى بلا أكفان يمثلون الشهداء الذين فقدوا هويتهم وكرامتهم حتى في الموت، بينما الموتى بلا وجهة يرمزون إلى التائهين في زحام الحياة، حيث تتداخل أسئلة الوجود مع تفاصيل الحياة اليومية البائسة. أعدُك أنك ستجد أشياءً لا يعرفها قلبك، وأحاديث لم تمرّ على أذنك، وستنجو من عبثية التكرار كما ينجو الطائر من مرمى الرصاصة. هذه الكلمات تحمل ذلك الوعد الخافت بالتحرر، بفتح أبواب جديدة للمعرفة والتجربة. هنا، يُبرز الشاعر قدرة الإنسان على تجاوز الألم والانطلاق نحو الحرية، حيث يجد في كل تجربةٍ مؤلمة فرصة للتجديد والتغيير. تركب فيها الموج على صفحة طافية، ويرافقك الساهر الأخير، ذلك الذي لا ينام حتى يكتمل الليل في عينيه، ويُسرّح الظلام على هيئة قصيدة. في هذه النهاية، تتجمع كل العناصر لتشكل تجربة إنسانية متكاملة، تُبرز الصراع الأزلي بين الأمل واليأس، وتحث القارئ على البحث عن المعنى في خضم الفوضى. ختاما، ببراعة الشاعر الذي يعرف كيف ينحت الجمال من قلب المعاناة، نجح وليد في تحويل الألم اليومي إلى قصائد تتنفس الحياة، تاركًا للقارئ مساحةً للتأمل. إنها رحلةٌ داخل الذات، حيث ينتهي الظلام ليُعلن عن بزوغ فجرٍ جديد، ليس لأنه انتهى، بل لأننا تعلمنا كيف نسرّحه بأيدينا. نص شعري من الديوان في صنعاء، الضوء لا يسكن المصابيح إنه يتسلل من أنفاس المقهورين، من ارتجاف كفّ تبحث عن رغيف، ومن حكاية عامل يمسح الغبار عن وجه الرصيف ويجلس أمام عدته. * * * في "السبعين"، الشارع يمد يده للمحتشدين كما لو كان يستجدي النبض من أجساد نسيت أنها حية. * * * "المصباحي" لا يحمل ضوءًا كما يدعي الاسم، يمر كظل سميك ويخطط جبين المدينة. "الصافية" أكوام مكدسةً من الخردة واسمها مجرد تهمةٍ أنيقة؛ لاحتضانها كفتيريا "مُدهش" وحكايات "طه الجند". * * * في صنعاء.. الموتى! ليسوا في المقابر، هم على الباصات، يحدقون في الفراغ بعيون تعرف طريقها إلى اللاشيء. لا توجد إشارة مرور ينتظرون اخضرارها ليعبروا، ولا يدركون أن الحياة سمحت لهم بدقيقة أخرى من الانتظار عند ازدحام الظهيرة. كل شيء فيها يتنفس كأنفاس مبتورة، الحياةُ تُباع بالتقسيط، والروح تحترق على دفعات. * * *