عبد الباري طاهر الهجرة هي السردية الكبرى لليمن عبر التاريخ. ففي الدولة السبئية والمعينية والحميرية كان اليمني تاجرًا يجوب الآفاق شرقًا وغربًا. وبعد انهيار الحضارة وخراب السد، أصبح اليمني مغتربًا في الآفاق، واشترك في حروب تأسيس المنطقة وبناء كياناتها. وكان في صدارة الفتوحات الإسلامية، وصولًا إلى الهند والصين شرقًا، والأندلس وبلاط الشهداء (بواتييه) في قلب أوروبا. ولكي نفهم دور المغترب في ثورتي سبتمبر 1962 وأكتوبر 1963، لا بد من التوقف عند دوره في بناء وتأسيس وتمويل الحركة الوطنية: حركة الأحرار في الشمال، ورابطة أبناء الجنوب في عدن وبعض المناطق. برز أيضًا دور المهاجرين في ظهور الحركة العمالية والأحزاب الحديثة ومؤسسات المجتمع المدني الحديث، وبالأخص في عدن وفي المهاجر. فمنذ الربع الأول من القرن الماضي ظهرت قرابة أربعين صحيفة في المهاجر بجنوب شرق آسيا، وصحيفة السلام في كارديف بريطانيا، والصداقة في مصر، ولوقت قصير صوت اليمن، إضافة إلى الحضور في صحيفة الشورى التي كان يصدرها الفلسطيني محمد علي الطاهر، وصحيفة الرابطة العربية. تولى المهاجرون الشماليون دعم حزب الأحرار والطلاب اليمنيين، واشتروا مطبعة صوت اليمن التي صدرت عام 1946. كما لعب التجار المهاجرون والعائدون دورًا مهمًا في تحديث البنية المجتمعية وإدخال الأساليب الحديثة والعلاقات الرأسمالية. وتحت تأثير الطلاب العائدين من العراق ومصر تكوّنت نواة الجيش اليمني الحديث، الذي كان له الدور الأساس في الحركة الدستورية عام 1948، ثم في أحداث 1955. كان المغترب — طالبًا، مدنيًا أو عسكريًا، تاجرًا أو عاملاً — هو حامل دور البطولة في تجديد الدولة وإحداث التغيير. كما كان له دور بارز في دعم الثورة. فقد كان يقارن بين البلدان التي يدرس أو يعمل فيها وبين أوضاع اليمن التي كانت تحكمها الدولة «المتوكلية اليمنية القروسطية قبل ثورة 26 سبتمبر 1962»، المعزولة عن العالم والعصر، والمحكومة بالثالوث الشرير: الفقر، والجهل، والمرض؛ فيصاب بالفزع. المغترب التاجر كان له أثر واضح في بناء المؤسسات والمتاجر والنشاط التجاري، وإن بصورة محدودة ومحاصرة. ويعود له الفضل في تشجيع التعليم الحديث ودعم الطلاب والحركة الوطنية الأم، كما دعموا التكوين العسكري الحديث، وتحديدًا تنظيم الضباط الأحرار. وإذا درسنا قادة الأحزاب السياسية القديمة والحديثة، والحركة النقابية العمالية، سنجد أن تأثير المهجر والهجرة كان كبيرًا جدًا، وأثرهم واضح في التحضر والتمدن وخلق المعارضة السياسية والتحولات التي قادت إلى الثورة اليمنية. رأس المال العائد من المهاجر والمُرسَل إلى المدن الرئيسية أسهم في ازدهار نسبي للحياة، وفي خلق وعي اجتماعي جديد، وفي بروز النشاط المدني، وظهور القوى الحديثة: العمال، والتجار، والطلاب، والفئات والشرائح المدنية، إلى جانب النشاط الرياضي والفني والأدبي والسياسي. كانت عدن في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات وحتى شطر من الستينات بوابة اليمن الكبرى إلى المهاجر. منها يرحل العمال والطلاب والتجار إلى المهاجر المختلفة، وإليها يعودون. وازدهرت فيها الحياة المدنية والحركة النقابية والأحزاب السياسية. ففي عدن تأسس حزب الأحرار عام 1944، والجمعية اليمنية الكبرى عام 1946. وكان أول تشكيل سياسي في مصر كتيبة الشباب اليمني عام 1940، وقد وقع على بيانها الأول طلاب أزهريون، منهم: النعمان، الزبيري، محمد علي الجفري، والبيحاني؛ وهم من أسسوا الحركة الوطنية في الشمال والجنوب. للحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) تأثير كوني بالغ. وقد تابع المفكر التقدمي عبد الله عبد الرزاق باذيب أثر الحرب على التجار اليمنيين، وبالأخص المهاجرين منهم، وكيف انعكس ذلك على الحياة العامة والتركيبة المجتمعية ودور الطبقة الوسطى والفئات والشرائح المختلفة. ومن هذه الفئات تشكّلت أداة الثورة. فتنظيم الضباط الأحرار الذي فجّر ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 كان معظمه من الضباط المنتمين إلى الطبقة الوسطى والفئات الفلاحية الفقيرة. تقاطر المغتربون من مختلف بلدان العالم لنصرة الثورة. كانوا الدعامة الأساسية التي حمت الثورة، وبنت الاقتصاد الوطني، وساعدت في بناء جهاز الدولة ومؤسساتها الاقتصادية. وتولى كثير من أبنائهم الوزارات والإدارات ورئاسة المؤسسات والشركات. وكان المغتربون السياج الذي حمى الثورة ودافع عنها، وكثير من أبناء العائدين منهم كانوا في الجيش الوطني والأمن. كان المشير عبد الله السلال، أول رئيس للجمهورية، يقول: «اليمني مقاتل بالفطرة، وإنسان مهاجر أيضًا.» والحقيقة أن اليمني إنسان مهاجر بالفعل. ويصدق عليه ما قاله الشاعر الكبير البردوني مخاطبًا الإمام أحمد: «فيمَ السكوتُ ونصفُ شعبك ها هنا * يشقى، ونصفٌ في الشعوب مشرّدُ.» أدرك المغترب علوان الشيباني بحسّه العميق أهمية الهجرة ودورها في بناء اليمن الجديد، وفي التأسيس للتنمية والبناء والحداثة والتطور والوحدة. تبنّى مشروع الآثار المتبادلة للهجرة، وشكّل لجنة من باحثين ومثقفين وأدباء ومختصين. وعلى مدى عامين أُعدت أبحاث ودراسات شارك فيها باحثون وأصحاب تجارب من مختلف المناطق والمشارب. وكان للهجرة الحضرمية دور بارز في الدراسات التي ضمّتها سبعة مجلدات، موّلها رجل الأعمال جمال بن عمر بعد وفاة الفقيد الكبير علوان الشيباني. كان للمهاجر اليمني دور كبير في رفد الموازنة والدخل القومي. قليلة هي الدراسات عن دور المغتربين في الثورة، لكن من المؤكد أن المهاجر اليمني لعب دور البطولة في دعوات الإصلاح والتجديد قبل الثورة، وحافظ على نمو الحياة وازدهارها. فقد وُلدت في المهاجر الصحافة والإبداع الأدبي والثقافي. ففي الرواية، تُعد فتاة قاروت للسقاف، وقرية البتول لحنيبر، ويموتون غرباء لمحمد عبد الولي من أوائل التجارب السردية على مستوى الجزيرة العربية. وفي الشعر جاء المجددون مثل محمد أنعم غالب، وسعيد الشيباني، وإبراهيم صادق، إضافة إلى ملحمة مطهر الإرياني عن المهاجر «الباله». أما في عهد الشهيد إبراهيم الحمدي، فقد امتد دور المغتربين إلى مختلف المناطق والأرياف اليمنية. كانوا حاضرين في إيصال الخدمات العامة: بناء الطرقات، شق الآبار، مشاريع الكهرباء، إنشاء المدارس الحديثة، وابتعاث الطلاب. كما عُقد لأول مرة مؤتمر للمغتربين، وأُنشئت لهم وزارة بعد الثورة، ثم أعادها الرئيس الحمدي.