محمود ياسين بلاد عبد الوهاب بن أمين، ومقبل وأحمد علي مهدي، والشيخ فيصل وعيال الشيخ فيصل. بلاد الحاج سعد الدين، وهي بلاد جد زوجتي العزي الذي قال: دولة ماته. كان باقي هدره أهادرها وتهادرني. قرية قايد سيف وسعيد بن أحمد علي. قرية الفرع الوهابي من بني قاسم. قرية الأشنون والضياح والبلس الترك، حيث وُلدتُ، وحيث يتوقع الكاتب الصحفي أن يمضي البرزخ في انتظار القيامة، وعيناه تنغلان بالدود تحت التراب. رجاح، حيث الماء يسيل ويتدفق، وبوسعك أن تمشي تحت العقد الذي يسيل على ساقيته الماء. كل إنسان يحب قريته، وكل كاتب يظن قريته أعظم قرى العالم. لكن انظر للصورة، لا قرية تشبه رجاح، ولا حتى ماكوندو. لا توجد قرية في العالم مزرّبة بتفاح، لا قرية في العالم لها بوابة تغلق عند المغرب، لا قرية في العالم يتدفق الماء على ساقية تمر بين بيوتها عند شروق الشمس، لا أطفال في العالم يرفعون ثيابهم عند الصباح ليجلسوا في الساقية صانعين بمؤخراتهم سدوداً للقرويات غاسلات الأواني والثياب. ولا حتى ماكوندو أنجبت كاتباً لا يزال يقرفص في ركن المفرج ببيت جده للآن، بينما تصفر الرياح القادمة من كهوف الأبدية على أظلاف النوافذ في الظلام والوحشة. كأنها رجاح وحدها هي أم طفولة ومخاوف طفولة الوجود، وهي من بعد المغرب تستجلب نوم الصغار الخائفين على إيقاع: يانوم يانامي يانوم جي وهات الفراش وهات الدفء. في رجاح وُلد أبو كلبة الذي يسرق الأطفال المشاغبين ويتهددهم بذيله المزيج من شرور الإنسان وبيلوحيا الحيوان. في رجاح وُلدت أسطورة النداهة وصوتها الذي لا سبيل لمقاومته، وهي تناديك لحتفك وتغييبك من صعيد مصر الميثولوجيا لرعب ليالي الضياح والجن، مجسدة لفكرة الصياد بقرية في ريف إب. هناك عند مصب السيل في حائرة الماء تواجد امرؤ القيس مطلاً على رجاح ومتلصصاً على أجساد الفتيات المستحمات، هناك فحسب بوسعك ترديد: أغرك مني أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعل فإن تك قد ساءتك مني خليقة فسلي ثيابي من ثيابك تنسل وما ذرفت عيناك إلا لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتل أتشعر في ضياعك وقيظك بلوعتك لربيع ما ومصاب ماء وزهور وأعقاب وصدور بضة ترتج؟ إنه هناك في رجاح. هل خطر لك المشمش والفرسك؟ اليناعة وفكرة الثمرة؟ في رجاح. هل ارتعبت يوماً من حشرجة الصياد في الظلام، وهي تنيمك أو تعمل على تنويمك مغناطيسياً لتسرقك من أمك؟ ذلك سيحدث لك في منتصف ليل رجاح بين بيت قاسم الزمر والشيخ عبد الله بن أحمد، تحت الساقية تماماً، في الظلام حيث لا أحد. في دهاليز وأقبية رجاح وُلد مصاص الدماء الكونت دراكيولا، وعند الزوال وُلدت كل فاتنة لدنة تفكر في الاستحمام وسيلان الماء بين الكتفين وهوس الشعر الأنثوي المبلل. رجاح هي الخامة الأولى والعجينة الأساسية، إنها السديم الأول الذي نبتت منه الكائنات والأساطير. بين المجران وباب الشغالب تكونت أذيال الكلاب، وعلى حواف الطين اليابس نتأت طينة البشر اللازب المتكلس وصلصال الوجود الأول. وحدها رياح رجاح الليلية توقظ لك الجن وتجسد لك عيون الوعيد والميتافيزيقيا في هبوب عواصف الليل والحكايا الشريرة. على أسوار رجاح فحسب تدرك عظمة وإمبراطورية الشخصية اليمنية، واليمني الشيخ يبني بيته بمزاج إمبراطور روماني يقاوم الاندثار. حدق في الصورة فحسب وستدرك: لا قرية تجاري رجاح، لا أسوار ولا سواقي ولا رياح توقظ شبقاً واستدفاء بأفخاذ النساء السمينات في الليل وتؤججه كما تفعل رياح ليل رجاح. لا امرأة تشبه قروية رجاح، حيث استوطنت قلب هذا الرجل الذي يكتب ويحب امرأته التي وُلدت من ذروة الأساطير وموجات الربح. الثمار والربيع، ولقد أقسم الله بالتين والزيتون المتثاقل اليانع على أسوار رجاح، قرية الحصى في صقيع الليل والأعقاب اللدنة المرفوعة خلف نوافذ البيوت والهجس والتثاؤبات خلف أسوار رجاح. الماء والمستحمين، ولا شيء يؤجج فكرة الظهيرة الباحثة عن سيلان الماء كما تفعل سواقي وبرك رجاح. لا كهل مؤمن ويغمغم: "وعنت الوجوه للحي القيوم" كما كان يغمغم جدي أحمد بن محمد ياسين في فجر رجاح. المنعطفات، مفرق رجاح، النزول بالسيارة، رجاح. لا أعظم ولا أكثر حيوية من أن تومض ولاعتك في الطريق لبيت عمك حيث تنتظرك زوجتك العائدة للتو من مكة. حيث وُلدت يا ابن ياسين، رجاح الساقية حيث كنت قبل أربعين عاماً طفلاً في السادسة من عمرك. رجاح حيث الساقية والقرويات المكتنزات، رجاح سيدنا محمد وأنت كل خميس تهتف: "غفر الله لك يا سيدنا ولوالديك". رجاح رجاح مزرّبة بتفاح، بينه بنات يستاهلين الأرواح. ومن هن الفتاة التي تزوجتها بنت قاسم العزي وعرفت معنى أن تسور حياتك بمذاق التفاح، وكأنني آدم. يا زوجتي وقصيدتي وحبيبتي، وأنت التفاحة التي سقطت بولهها من الجنة. رجاح، لا تزال الساقية مغمورة بالجص والجفاف. ولا تزال المصبنات غاسلات الثياب يطلبن لأحدنا أن يرفع ثيابه ويجلس ليصنع لأحدهن سداً للماء. ولا تزال ديور المشايخ من بني قاسم قائمة، غير أن لا أحد في دهاليزها غير الجن ووحشة التحولات، حيث لا رعية بعد ولا مشايخ، حيث ذكريات الشركاء والدساميل التي ماتت تاركة الجن والرعية في سلالمها يبحثون عن تفسير لفكرة الرعية. رجاح يا جدي أحمد بن محمد ياسين، بني قاسم، أنبل رجال ناحية إب، وأكثر الذكريات التباساً وإشارة لتداعي مفهوم الصراع الطبقي الذي وكأنه حدث لم يحدث. يا بيت جدي، ضاع المفتاح وأبوابك تبكي على اللي راح. أنا الآن في الجداجد، السفح الذي تبول على حافته مقبل حارس قات الشيخ رعباً وقد تناوشته الجن. سعيد بن أحمد بن علي، وكنا نسميه الأشقم، وقد آمن بالجن فاختطفوه ذات ليلة ممطرة. الليل موحش يا جد، ونافذة بيتك يطل منها عمي عبظ الولي مزمجراً بصوته الأجش: من هؤلاء يا أخي يا جبريل؟ وفي الخلفية أبي بنسخته الأساسية قبل أربعين عاماً، وبينهما كوفية طفل كنتُه يوماً. جدي أحمد، تردد: "سبوح قدوس، رب الملائكة والروح". وأنا على سفح الجداجد، خائف ومتضرر ووحيد. كيف أقطع الهاوية إلى بوابة رجاح وهي مسكونة بالهاليز والجن؟ لا تزال في مخاوف طفولتي. إن مضيت، أين أنام؟ وإن تجاسرت، كيف أقطع هاوية تؤججها الريح؟ أنا هنا يا جدي، لا طريق لبيتك، ولا طريق للعودة. سأغفو هنا، كما هو قدر الشريد. سأغفو هنا يا أحمد بن محمد ياسين، وعندما تذهب لصلاة الفجر، بوسعك أن تلكزني بقدمك لتوقظ صحفياً لا جهة تسانده ولا جهة يطل منها. أيقظني أيها الكهل الذي تصفر في نوافذه الريح. الآن فقط، الآن بوسعي تحوير بيت من قصيدة البردوني وهو يغمغم: "وجسم بأحضان الجداجد دافئ". لا أدري، يتبقى منك إيقاع ليس من وعيي الموسيقي بالرثاء، ولا هو من ميثولوجيا الراعيات المغنيات، لكنه هو فقط ما يتردد في أعماقي يا رجاح: عصفور طل من الشباك وقال لي يا نونو خبيني عندك خبيني دخلك يا نونو.