القربي ينتقد قيادات المؤتمر التي تربط توحيد الحزب بالحصول على الدعم    اليمن تتصدر الدول العربية في تأشيرات الهجرة إلى أمريكا لعام 2024    أيوب التميمي.. حين تتحول سخرية الأم إلى صفعة على وجه المسؤول الغائب!    ترامب يعلن إلغاء لقائه مع بوتين في المجر    شبوة.. حريق ضخم يتسبب بأضرار مادية باهضة في الممتلكات    الأرصاد يحذر من منخفض جوي يتجه نحو أرخبيل سقطرى    محمد صلاح في القائمة المختصرة للمرشحين لنيل جائزة أفضل لاعب في إفريقيا 2025    ريال مدريد يعتلي الصدارة بعد فوزه الثالث على التوالي في دوري الأبطال    دوري ابطال اوروبا: ريال مدريد يحسم قمته بمواجهة اليوفنتوس    غاسبريني يريد لاعب يوفنتوس ماكيني    السكوت عن مظلومية المحامي محمد لقمان عار على المهنة كلها    أكبر جبان في العالم ؟!    قراءة تحليلية لنص "أكْل التراب" ل"أحمد سيف حاشد"    صوت من قلب الوجع: صرخة ابن المظلوم إلى عمّه القاضي    الدكتور عبدالله العليمي يطمئن على العميد رزيق ويوجّه بتعزيز الإجراءات لمواجهة الخطر الحوثي    اجتماع يناقش خطط عمل ومشاريع التحديث في هيئة المواصفات    تسليم 3 وحدات سكنية لأسر الشهداء الأشد فقراً في مقبنة بتعز    "حماس": تصويت الكنيست الصهيوني على ضم الضفة يعبر عن الوجه الاستعماري القبيح    حضرموت بين ماضيها المجيد ومستقبلها الحر.. لن تمحوها إخوانية الشر ولا حلف التبعية    هيئة الآثار تنشر قائمة جديدة بالآثار اليمنية المنهوبة    صنعاء: تدشين مبادرة "معاً لبيئة نظيفة" لتنظيف الأرصفة    (نص + فيديو) كلمة قائد الثورة في استشهاد القائد الفريق "الغماري"    عدن.. محكمة صيرة تصدر حكمًا بالإعدام قصاصًا بحق قاتل الشاب عارف فرانس    وزير الصناعة يبحث مع رئيس مجلس منظمة التجارة تفعيل عضوية اليمن وتعزيز حضورها الدولي    المحكمة الجزائية بحضرموت تقضي بإعدام 6 إيرانيين أدينوا بتهريب المخدرات إلى اليمن    عدن تُحتضر بصمت.. مأساة المدينة تكشف عجز التحالف والشرعية    تفجير تعز.. إصابة قائد عسكري يمني ومقتل 2 من مرافقيه    صنعاء تبدأ بترميم «قشلة كوكبان» التاريخية    حزام أبين يفكك خليتين تعملان لصالح مليشيات الحوثي ويضبط قيادات مرتبطة بتمويل خارجي    الكثيري: الاستثمار في الطاقة المتجددة خطوة استراتيجية لبناء جنوب حديث    رئيس الوزراء يدعو الشركات الصينية للاستثمار في اليمن ويشيد بالعلاقات الثنائية مع بكين    الذهب يتراجع بأكثر من 2% مع صعود الدولار وجني الأرباح    البنك الدولي: نحو 216 مليار دولار تكلفة إعادة إعمار سوريا    صنعاء.. البنك المركزي يوقف التعامل مع منشأة صرافة    رسمي: بدء صرف شهري سبتمبر و اكتوبر من اليوم    شرطة تعز تعلن ضبط 11 مطلوبا في قضايا ابتزاز واعتداء مسلح على مدرسة    احتجاجات عدن تكشف سياسة التجويع والترويع التي ينتهجها العدوان ومرتزقته    نتائج نارية ومفاجآت مدوية في أبطال أوروبا    قبل الكلاسيكو.. برشلونة يكتسح أولمبياكوس بسداسية    سيتي يغرق «الغواصات» في إسبانيا    على ضفاف السبعين.. رسالة من شاطئ العمر    القوات الخاصة البريطانية تنفذ عمليات سرية ضد روسيا    اكتشاف 4 نجوم تدور حول بعضها البعض في انتظام بديع    الكشف عن عين إلكترونية تمكن فاقدي البصر من القراءة مجددا    كلمة في وداع د. محمد الظاهري    مانشستر سيتي يتخطى فياريال بثنائية نظيفة في دوري أبطال أوروبا    نقابة المحامين اليمنيين تكلف لجنة لمتابعة قضية اعتقال المحامي صبرة    احتجاجات غاضبة في عدن عقب انهيار كامل للكهرباء وتفاقم معاناة السكان    صاحب الفخامة.. وأتباعه بدون تحية    قراءة تحليلية لنص "هاشم" اسم أثقل كاهلي ل"أحمد سيف حاشد"    مرض الفشل الكلوي (24)    ثوار 14أكتوبر وعدوا شعب الجنوب بأكل التفاح من الطاقة    شبابنا.. والتربية القرآنية..!!    إشادة بتمكن عامر بن حبيش في احتواء توتر أمني بمنفذ الوديعة    لو فيها خير ما تركها يهودي    اليمن انموذجا..أين تذهب أموال المانحين؟    الرمان... الفاكهة الأغنى بالفوائد الصحية عصيره يخفض ضغط الدم... وبذوره لها خصائص مضادة للالتهابات    ما فوائد تناول المغنيسيوم وفيتامين «بي-6» معاً؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة تحليلية لنص "أكْل التراب" ل"أحمد سيف حاشد"
نشر في يمنات يوم 22 - 10 - 2025

حاشد حول "الطفولة" نقطة انطلاق لتشريح الواقع اليمني..
صوت الفرد حين يتحول إلى صرخة جماعية ضد الاستبداد ويغدو التراب استعارة عن المقهورين جميعًا..
الفقر ليس قدراً بل أداة للهيمنة، والخرافة ليست سوى وجهٍ آخر للسيطرة..

أكْل التراب..!
أحمد سيف حاشد
كان يشاركني بأكلَ التراب في صِغَري ابن عمّي سالم أحمد محمد هاشم، والذي يكبرُني بعشرة أشهر تقريباً. شهيتنا لأكل التراب تعود إلى بؤس حال، وسوء تّغذية عشناهُ معاً.
التغذية السيئة كانت بعضاً منّا.. رافقت طفولتنا البائسة يوماً بعد يوم، وأدركت بعضاً من مراهقتي وشبابي الأول.. لطالما أعيتني وأثقلت كاهلي، ولازمتني حتى بداية التحاقي بالكلية العسكرية.
مرّت عقود طوال دون أن أعلم حقيقة دافعي لأكل التراب في طفولتي الباكرة تلك، غير طعمه المستساغ واللذيذ، واستمتاعي به حال تعاطيه. ربما أرجعت تلك الحالة أو بعضها إلى صغر السن وانعدام فهم الضرر، أو عدم القدرة على التمييز.. وربما أرجعت بعضها إلى عناد الصبية وردود أفعالهم حيال العقاب، أو بدافع الجهل والفضول الذي حوَّله المنع إلى اجترار واعتياد لا يخلو من لذة ومتعة.
لقد كانت خلوتي مع التراب ممتعة جداً، ولكنها لا تخلو من عقاب أكيد حتى وإن تأخر أحياناً. كانت بقايا التراب المعجون بلعابي في فمي، ومحيطه يفضح فعلتي دون مواربة. وبعد أكثر من خمسين عاماً قرأت أن سبب أكل الطفل للتراب يرجع إلى نقصِ مادةِ الحديد في جسمه.
تأكل التُّراب بسبب سوءِ التّغذية، ونقصِ عُنصرِ الحديد الّذي يحتاج له بدنُك، ثم تُعاقَبُ بالضرب لسببٍ خارجٍ عن إرادتك، ويلحقك مزيد من العذاب، وتسكنك العُقد، وتظل تكبر داخلك وأعماق نفسك في الوعي واللاوعي، وربما تشهد اضطرابات، وانحرافات سلوكية لاحقة كصبينة تلازمك، أو انحراف عناد مكلف دون مبرر يرتقي، لا يضر بك وحدك، بل يضر بغيرك أيضا، وعلى نحو كبير وفادح، والأمثلة هنا لا يتسع لها مقام.
لقد أكلتُ التراب في عمر الطفولة الأولى.. كنتُ ضحيةً لظروفي منذ نعومة أظافري.. ضحية للسلطة، والجهل، والقمع، والتنشئة الخاطئة.. ضحية الفقر والحاجة والعوز.. ضحية الواقع الذي تشاركت كثير من العوامل في إنتاجه وفرضه.
ما يؤسف له اليوم، أن هناك من يريد، بل ويصرُّ أن يُبقيني أسير عوزي وحاجتي، بل ويجعلني غنيمة سلطة، وغنيمة حرب حتى الرحيل أو قطع الأجل. من يريدني أن أعود لأكل التراب ما بقي من حياتي.. من يريد أن أعيش ضحيةً إلى آخر العمر، مهموماً بنفسي، وغارقاً في تفاصيل حياتي اليوميَّة، مثقلاً بمعاناتي، ومقرونة بعبودية تريد أن تنتعل كرامتي، وتستبيح وجودي للأبد، أو هذا ما أتخيله حالما أشعر أن هناك إذلالاً يريد أن يمارس بطولته على حقي، وحق أمثالي في الحرية والكرامة والوجود.
أعجبتني تلك النكتة أو المقولة التي انتشرت في عهد الحرب، وتنسب لمواطن يمني يعبر فيها عن وضعه المعيشي، وواقع الحال التي قُطعت فيه المرتبات، ونُهبت الحقوق على نحو ما كان يدور على بال؛ حيث يقول المواطن مخاطباً سلطات الأمر الواقع هنا وهناك: "صحيح أننا نحب تراب الوطن.. بس لا تخلونا نأكله".
هنا من يريدني أنا وأمثالي أن نظل مشغولين عن فساد السُّلطة، وانتهاكاتها، والحيلولة دون الدفاع عن حقوق وحريات النَّاس، بل وأيضاً يحاول قلع الأظافر الدامية التي تحاول الحفر في الصخر، وأكثر منه الذي يتمنَّى أن لا نستطيع حتى التنفُّس الذي يحسدوننا وينافسوننا عليه.. إنه عهد دنيء و وحشي ما كان بحسبان.
* * *
في طفولتي الأولى كانت أمّي في الوقت الذي تضربني لأكلي التراب، أجدها في مناسبة أخرى تطلب منّي وعلى نحو لحوح أن آكل التراب.. عجب ومفارقة وحيرة، وبينهن طفولة معذبة وبائسة، ومثقلة بالجهل والحرمان الأشد.
كانت أمّي تصحبُني معها في بعضِ الأيَّام، وهي تزور قبر جَدِّها "الشيخ حُيَيَّ"، وكان يشمل المكان مقامه وغرفته، وقبتيه، وبعض الملاحق.. كانت أمّي تحمل الشَّمع الّذي شرطته وأنذرته من أجلنا لجَدِّها، وتسرِّج بها ظلمته، فيما تضع بعض رُزَم الشّمع غير مستخدم في كوّةِ الغرفةِ أو على حافةِ القبر؛ لمن يأتي في يوم آخر ليضيء ظلمة جدنا "الشيخ حيى" وتفعل أمّي مثل هذا أيضاً، مع قبر ومقام جَدِّنا الشيخ أحمد القريب أو المقرَّب منه، والذي كان قبره ربما بارتفاع ذراع في حجرة متواضعة، وسقف مستوٍ غير متوّج بقبة.
رأيتُ أمي تُسرِّج مقام جدنا "الشيخ حيي" بالشَّمع والضَّوء، وهي تشعر بفرحة غامرة، وسعادة كبيرة لا تتسع لها، ولا يتسع لها المكان.. ثمّ تمُدُّ يدها في كوَّةٍ موجودة على جدار القبر إلى الداخل، وتُخرجُ بعض فُتات التراب، وتأكلُ منه قليلاً، وتعطيني قليلاً منه لآكله.. كانت تحثُّني وتشجِّعُني على التهامه، لأنه – كما تعتقد- مكنوز بسرِّ جدّها الّذي جاء من حضرموت ليحطَّ به الترحال والأجل هنا، ربّما فقيهاً كان، أو عالماً وصاحب "كرامات".
ما زلتُ أذكر أمّي وهي تشجعني وتحثني على أكل التراب، بل وتبدأ هي بالتهام بعضه.. تُلحُّ بإصرار أن ألتهم حصتي منه. تحاكيني وهي تفعل لأفعل مثلها.. تطلب مني أن أفعل ما تفعله.. تفعل معي كما تفعل الأم مع طفلها، وهي تُطعِمه بعد الفطام.. كانت تحاول إفهامي جاهدة – وأنا ألفَحُ التراب – كأنني سأخرج من المكان وقد تزودتُ بشيء لم يكن موجوداً حال الدخول إليه.
ورغم فقداني للذَّة التراب الذي كنت معتاداً عليه، وأعاني من عقوبة التهامه، ورغم فقدان هذا التراب لنعومته، إلا أنّ روحانيّة المكان، وهيبته، وجلال المقام، و"كرامات" صاحبه بحسب روايات أمّي، وما تفندَّه من محامد ومكارم جدها، وما يحمله من سرٍ جديرٍ بالاهتمام، أو هذا ما كانت أمي تلقّنني إياه حينذاك، وترويه لي بثقة عالية ويقين لا يتزحزح.
كنتُ إذا تعرضت لمرضٍ أو مكروهٍ تدعو بعد الله جدها "الشيخ حيى" وجدتها "جنوب" من جهة أمها، ومعهما جد أبي "الشيخ أحمد"، وتزيد أحياناً "أحمد ابن علوان" و"شاغث" أن يشفوني ويجنّبوني كل شر، ويزيلون عني كل مكروه.
كنت أظنُّ وأنا طفل أنّ هذا التراب الذي ألتهمه هو من بقايا عظام، ورفات جد أمّي، ولكن في مرحلة متأخرة أدركت أنه من فوق القبر، لا من جوفه، وأن رفاة جد أمي وبقاياه مازال مدفونا بعمق القبر والمكان. ورغم اعتقاد أمّي بالمفعول السحري لتراب جدّها، إلا أنني لم أجد طعمه بلذاذة التراب الذي اعتدتُ أكله أو تعوّدتُ عليه، وكنتُ ألتهمه سراً وخِفَيةً عن أعين أمّي.
ومثلما تُلحُّ أمّي على أكل تراب جدّها، كانت تفعل معي أيضاً مع شرب الحليب، وقد صارت لها بقرة يباركها الرب.. ما إن أنتهي من شرب كمية منه، ترجوني بإلحاح وصوت خفيض على أن أزيد؛ حيث تردد: "أشرب.. زيد اشرب.. زيد اشرب.. اشرب مليح .. اشرب يصح بدنك".. وصوتها الخفيض كان كمن لا تريد أن يسمع أحد ما بيننا، وتظل تحاول وتحاول أن أشرب المزيد حتى تيأس من أن أعيد.. كانت تحبني أكثر من أبي، وتؤثرني عليه في كل شيء، حتى في الحليب الذي كان يتناوله كل مساء.
كانت أمّي تمارس إلحاحها، وتحملني على شرب المزيد من حليب البقرة، فأشعر أنها تريدني أكبر وأقوى بسرعة.. تريدني أكبر وأشب قبل الأوان.. وربما شعرتُ وهي تُلحُّ أنها تريدني أن أكبر في الحال.. أمّا أكل التراب من على القبر، فكانت تعتقد أنها تُودعني سرَّ جدها، وتقيني من كل مرض وشر ومكروه.
لم يكُنْ يُغريني حليبُ البقرة، بل كان حليب "النيدو" هو الذي أروقه ويروقني؛ ربما لأنه كان بعض منّي، وكان يسُدُّ حاجتي، عندما كان لا يكفيني ضرع أمي التي تعاني أيضاً من سوء التغذية، وأنا ما زلت دون عمر السنتين. وما زلتُ إلى اليوم أشتهي أن أكرعه في فمي بكميات كبيرة، كما كنت أفعل هذا في سنِّ الطفولةِ وسنِّ المدرسة، بل والمراهقة أيضاً، حتى أبدو أمام نفسي شخصاً غير طبيعي، وأنا أقدح ملعقة اللبن تلو الملعقة، وألعط فيه بنهم شره.
حالما كنت طفلاً في السنة الأولى مدرسة على الأرجح، رأيتُ رؤيا، وفيها أنني أمَمْت النّاس بالصلاة في المقام، ورأيت "الشيخ حيي" وأشياء أخرى، نسيت تفاصيلها، رغم أنّ الرُّؤيا كانت – يومها- كفَلقِ الصُّبح من حيث الوضوح والتفاصيل، بل كأنّها كانت حقيقة لا رؤيا.
أمي وأبي كانا مهتمَينِ على غير العادة بهذه الرّؤيا، ويطلبان أن أُعيدَ روايتها على مسامعهما، وأشاهد سروراً دافقاً واهتماماً لافتاً منهما بما أرويه. ربما فهموا من الرؤيا أنّها تتعلق بمستقبلي البعيد، غير مدركين أنّ المستقبل سيكون للفساد والقتلة والمستبدين، بل والمعتوهين والتافهين أيضاً.. والأهم أنني طيلة هذا العمر المديد ظللتُ متماسكا أحذر السُّقوط، وأحذر من السُّقوط المُريع مرتين وألف.
* * *
قراءة تحليلية للنص باستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي DeepSeek & chat GPT & Gemini
يعد نص الكاتب والبرلماني اليمني أحمد سيف حاشد «أكل التراب» والمنشور في كتابه "فضاء لا يتسع لطائر" نص سردي تأملي عميق، يتجاوز حدود السيرة الذاتية إلى مساحة تحليل المجتمع اليمني وتجلياته النفسية والاجتماعية والسياسية، من خلال تجربة شخصية شديدة الرمزية.
ويُعتبر من النصوص السيرية التي تمزج بين البوح الذاتي والرؤية الاجتماعية والسياسية، في صياغة أدبية تتجاوز الاعتراف الفردي إلى تحليل بنية القهر الجمعي.
وينتمي النص إلى أدب الذاكرة والوعي المقاوم، إذ يلتقط فيه "حاشد" تفاصيل طفولته الفقيرة ليحوّلها إلى استعارة كبرى عن واقع الإنسان اليمني الذي جُبل على الحرمان والخذلان.
البنية الموضوعية
1. التراب كرمز مركزي
يشكّل التراب محورًا دلاليًا تتقاطع فيه مستويات متعددة من المعنى:
رمز الفقر والجوع: يربط "حاشد" بين أكل التراب وسوء التغذية، ليجعل منه صورة جسدية للفاقة.
رمز القمع السياسي والاجتماعي: يتحوّل التراب إلى استعارة للواقع المعيشي الذي فرضته السلطة، في قوله: «من يريد أن أعيش ضحية إلى آخر العمر... من يريد أن أعود لأكل التراب ما بقي من حياتي».
رمز الانتماء المقهور: في العبارة الساخرة «نحب تراب الوطن، بس لا تخلونا نأكله»، يتجسد التراب كحبٍّ للوطن مشوبٍ بالقهر، حيث يتحول عشق الأرض إلى جوعٍ إليها.
2. الطفولة بوصفها ذاكرة القهر
يستدعي "حاشد" طفولته الفقيرة ليقرأ من خلالها جذور القمع والجهل في المجتمع اليمني.
فأكل التراب لم يكن فعلاً عبثيًا، بل نتاجًا لبنية اجتماعية مهترئة، تمارس العقاب دون فهم، وتعيد إنتاج الألم في الأجيال اللاحقة.
وهكذا تصبح الطفولة نقطة انطلاق لتشريح الواقع اليمني، لا مجرد ذكرى شخصية.
3. الأم كرمز للوعي الشعبي المزدوج
تمثل الأم في النص تجسيدًا للوعي الشعبي الممزق بين الإيمان والخرافة، بين الحنان والجهل..
فهي تضرب ابنها حين يأكل التراب، ثم تدعوه لاحقًا إلى أكله من مقام جدّها "الشيخ حيي" طلبًا للبركة.
وعبر هذا التناقض، يفضح النص آلية التوريث الثقافي للجهل الديني الذي يتغذى على الفقر واليأس.
4. التحوّل من الخاص إلى العام
يتطور السرد من التجربة الذاتية إلى الخطاب الجمعي، حين يربط "حاشد" معاناته بمعاناة وطنٍ بأكمله:
"من يريدني أن أعيش ضحيةً إلى آخر العمر... غارقًا في تفاصيل حياتي اليومية."
يتحوّل صوت الفرد إلى صرخة جماعية ضد الاستبداد، ويغدو التراب استعارة عن المقهورين جميعًا.
البنية الفنية
1. الأسلوب
يكتب "حاشد" بلغة سردية شديدة الصدق والعفوية، تمزج بين البساطة والعمق التحليلي.
والنص يتراوح بين السيرة الذاتية والتأمل الفلسفي والمقال السياسي، في أسلوب يذكّر بأدب الاعترافات الواقعية ذات النزعة الإنسانية.
2. اللغة والصورة
لغة النص مشحونة بالرمزية والحس الوجداني، وتعتمد التكرار والإيقاع الداخلي لتكثيف الشعور بالقهر.
والصور تمتزج فيها المادية (التراب، الجوع، القبر) بالروحية (الكرامات، المقام، البركة)، في جدلية تجمع بين المعاناة الجسدية والاغتراب الروحي.
3. البناء الزمني
يعتمد الكاتب تسلسلًا كرونولوجيًا يبدأ من الطفولة إلى الحاضر، لكنه يكسر الخط الزمني بمقاطع تأملية تحليلية.
هذا المزج بين السرد الزمني والوعي التحليلي يُكسب النص بعدًا تأمليًا وفكريًا.
الدلالات الفكرية والفلسفية
يحمل النص رؤية فلسفية حول العلاقة بين الإنسان والفقر والسلطة..
الإنسان يولد ضحية ظروفه، لكنه يمتلك قدرة الوعي والمقاومة.
الفقر ليس قدراً بل أداة للهيمنة، والخرافة ليست سوى وجهٍ آخر للسيطرة.
وفي النهاية، يتشبث "حاشد" بكرامته كفعل مقاومة..
"ظللتُ متماسكًا أحذر السقوط المُريع مرتين وألف."
البعد النفسي
1. صدمة الطفولة والحرمان
يعكس النص صدمة الطفولة الناتجة عن الفقر وسوء التغذية، ويكشف عن صراع داخلي بين حاجة الجسم البيولوجية (نقص الحديد) والعقاب الاجتماعي، ويبرز تكوين عقدة نفسية من خلال المعاقبة على فعل لا إرادي.
2. التناقض والازدواجية في التنشئة
ازدواجية المعاملة من الأم: تضربه لأكل التراب ثم تدفعه لأكل تراب القبر
تناقض الرسائل: التراب ممنوع ومذموم في سياق، ومقدس ومفيد في سياق آخر
وهذا التناقض يخلق ارتباكاً نفسياً وحيرة لدى الطفل.
3. الرمزية النفسية لأكل التراب
التراب يمثل الهوية والانتماء ("نحب تراب الوطن")
ويمثل التراب الفقر والعوز ("بس لا تخلونا نأكله")
ويعكي التراب طبيعة التراث والروحانيات (تراب القبر المقدس)
4. آثار الصدمة المستمرة
صدمة متكررة: من الطفولة إلى مرحلة النضج
استمرار المعاناة: من سلطة الطفولة إلى سلطة الدولة
شعور بالاضطهاد: تحول من ضحية الفقر إلى ضحية النظام
5. البحث عن الهوية والذات
صراع بين الماضي والحاضر: بين طفل يأكل التراب ورجل يرفض العودة له
بحث عن الكرامة: رفض أن يظل ضحية طوال الحياة
محاولة فهم الذات: من خلال تحليل الماضي وتأثيراته
6. العلاقة المعقدة مع الأم
حب الام: تحب ولكن بطرق متناقضة
تأثير المعتقدات الشعبية: على التنشئة والتطور النفسي
صراع بين العقلانية والخرافة: في تقبله لسلوكيات الأم
7. الصراع بين الحرية والقمع
ويتمثل في الأسرة في الطفولة، ثم قمع السلطة، وهو ما ولد لدى "حاشد" رغبة في التحرر من كل أشكال القهر.
وفي المجمل يقدم النص تحليلاً عميقاً للعلاقة بين الحرمان المادي والصحة النفسية، وكيف تتحول الإصابات الطفولية إلى شظايا نفسية تلازم الإنسان طوال حياته..؟
البعد الاجتماعي
يتجاوز النص التجربة الفردية ليلامس قضايا مجتمعية واقتصادية وثقافية عميقة.
1. الفقر وسوء التغذية كظاهرة مجتمعية
بؤس الحال وسوء التغذية: يفتتح "حاشد" النص بالإشارة إلى أن شهيته لأكل التراب في طفولته كانت تعود إلى "بؤس حال، وسوء تّغذية عشناهُ معاً" هو وابن عمه. هذه ليست حالة فردية معزولة، بل هي انعكاس لواقع الفقر والحاجة والعوز الذي عانى منه شريحة من المجتمع اليمني في تلك الفترة.
نقص الحديد والجهل الطبي: يكتشف "حاشد" لاحقًا أن دافع أكل التراب علميًا هو "نقصِ مادةِ الحديد في جسمه".
والمفارقة الاجتماعية هنا هي المعاناة المزدوجة: سوء التغذية (السبب الحقيقي) يقابله الجهل بالسبب العلمي وتفسيره بالعناد أو قلة التمييز، ما أدى إلى العقاب الجسدي ("تُعاقَبُ بالضرب لسببٍ خارجٍ عن إرادتك"). هذا يسلط الضوء على غياب الوعي الصحي والتعليم، وكيف يؤدي الجهل إلى تفاقم المعاناة الاجتماعية.
الواقع المشترك: يلخص"حاشد" معاناته بالقول: "كنتُ ضحيةً لظروفي… ضحية للسلطة، والجهل، والقمع، والتنشئة الخاطئة.. ضحية الفقر والحاجة والعوز.. ضحية الواقع الذي تشاركت كثير من العوامل في إنتاجه وفرضه." وهو ربط مباشر بين المعاناة الشخصية وبنية السلطة والمجتمع والاقتصاد.
2. نقد الواقع السياسي والفساد (البعد الاجتماعي-السياسي):
استغلال العوز والحاجة: ينتقل النص من الماضي إلى الحاضر بمرارة ليصبح نقدًا سياسيًا واجتماعيًا لاذعًا، خاصة في الفقرات التي تتحدث عن استمرار المعاناة: "هناك من يريد، بل ويصرُّ أن يُبقيني أسير عوزي وحاجتي، بل ويجعلني غنيمة سلطة، وغنيمة حرب…" هذا يعكس استغلال القوى المسيطرة لحالة الفقر المجتمعي لإبقاء الناس خاضعين ومهمومين بحاجاتهم الأساسية.
إلهاء الناس عن قضاياهم: يشير "حاشد" إلى محاولة السلطة إلهاء الناس عن القضايا الكبرى: "هنا من يريدني أنا وأمثالي أن نظل مشغولين عن فساد السُّلطة، وانتهاكاتها، والحيلولة دون الدفاع عن حقوق وحريات النَّاس…" وهنا يصور استراتيجية اجتماعية سياسية تهدف إلى تدمير الوعي الجمعي أو إخماد المطالبة بالحقوق والكرامة.
نكتة "تراب الوطن": المقولة الساخرة: "صحيح أننا نحب تراب الوطن.. بس لا تخلونا نأكله" هي تعبير اجتماعي عابر للطبقات عن واقع الحال بعد انقطاع المرتبات ونهب الحقوق. إنها تلخص العلاقة المتوترة بين الانتماء الوطني (تراب الوطن) والحرمان المادي الذي وصل بالناس إلى حد الجوع الفعلي، وهي نكتة تنبع من قاع المجتمع وتفضح الفساد.
3. التناقض الثقافي والاجتماعي (العادات مقابل العلم):
ازدواجية الموقف من التراب: يبرز البعد الثقافي-الاجتماعي في التناقض الصارخ بين منع الأم للطفل من أكل التراب (لأنه خطأ أو جهل) وحثها له على أكل "تراب المقام" (لاعتقادات دينية/خرافية).
التراب المقدس والجهل بالعلم: تصرف الأم في المقام يعكس جانبًا من الممارسات الثقافية والشعبية المرتبطة بالدين والكرامات: "كانت أمّي… تُخرجُ بعض فُتات التراب، وتأكلُ منه قليلاً، وتعطيني قليلاً منه لآكله.. لأنه – كما تعتقد- مكنوز بسرِّ جدّها…" وهذا يمثل سيطرة المعتقدات الشفاهية على العقل، حيث يكتسب تراب القبر "قيمة سحرية" (يقيني من كل مرض وشر ومكروه)، بينما يتم عقاب الطفل على أكل التراب العادي الذي يأكله نتيجة لمرض حقيقي ونقص غذائي.
صراع اجتماعي
وهذا التباين يعكس صراعًا اجتماعيًا بين التفكير الغيبي والخرافي (الذي يحمل في طياته دلالات روحانية ولكنها غير علمية) والجهل بالحقائق العلمية البسيطة المتعلقة بالصحة والتغذية.
و بهذا، ينجح "حاشد" في تحويل سيرة ذاتية بسيطة (أكل التراب) إلى لوحة اجتماعية تشريحية للمجتمع، تفضح الفقر، تنقد السلطة، وتوضح التناقضات الثقافية التي تحكم حياة الأفراد.
مرآة للواقع
يُعد نص «أكل التراب» شهادة إنسانية على التحول من الجوع إلى الوعي، ومن الألم إلى المقاومة.
ويتخذ أحمد سيف حاشد من تجربته الشخصية مرآةً لواقعٍ اجتماعي وسياسي يمني مأزوم، في لغةٍ صادقة، تزاوج بين الاعتراف والتحدي، والمأساة والأمل.
إنه نص يختزل مأساة وطنٍ يأكل ترابه، لكنه لا يفقد الإصرار على الوقوف من جديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.