أحمد سيف حاشد (5) كان يشاركني أكل التراب في صغري ابن عمي سالم أحمد محمد هاشم، و الذي كان يكبرني بعشرة أشهر، و صار التراب بيننا أكثر من عيش و ملح .. شهيتنا لأكل التراب ربما يعود إلى سوء التغذية، و نقص مادة الحديد في الجسم، أو هذا ما قرأته بعد خمسين عام. تأكل التراب بسبب سوء التغذية، و نقص عنصر الحديد الذي يحتاج له بدنك، و تعاقب بالضرب لسبب خارج عن ارادتك، و ربما تضرب بالحديد لأن جسمك ينقصه عنصر الحديد، و يلحقك مزيدا من العذاب، و تسكنك العُقد، و تظل تكبر داخلك، و بأعماق نفسك في الوعي و في اللاوعي، و تشهد اضطرابات و انحرافات سلوكية تضر بك و بغيرك، و تغيب عدالة الأرض عنك، و ربما تتأخر عدالة السماء أيضا إلى يوم الحساب. لقد أكلتُ التراب و أنا حديث سن في عمر الطفولة الأولى، و كنت أعاني من سوء التغذية، فضلا عن نقص عنصر الحديد في الجسم .. لقد كنت ضحية من نعومة اظافري، للسلطة، و الجهل و القمع و التنشئة الخاطئة، و ضحية هذا الواقع الذي تشارك الجميع في انتاجه و صناعته.. و لازال هناك من يريد، بل و يصر أن يبقيك تأكل التراب، و يريدك ضحية إلى آخر العمر، مهموما بنفسك، و غارقا في تفاصيل حياتك اليومية، مثقلا بمعاناتك، و مشغولا عن فساد السلطة و انتهاكاتها، و الحيلولة دون أن تدافع عن حقوق و حريات الناس، بل و أيضا إن أستطاع تقليم أظافرك الدامية التي تحاول أن تحفر بها في الصخر، و أكثر من هذا يتمنى أن لا تستطيع حتى التنفس، الذي يحسدك و ينفسك عليه. كانت أمي في الوقت الذي تضربني لأكلي التراب، أجد في مناسبة أخرى أمِّي تدعيني و على نحو لحوح لأكل التراب .. عجب و مفارقة ربما لا تخطر على بال .. و بين هذا و ذاك طفولة معذبة و بائسة، و مثقلة بالجهل و الحرمان الشديد.. كانت أمي تصحبني معها في بعض الأيام، و هي تزور قبر جدها "الشيخ حيى"، و كان يشمل المكان مقامه و غرفته و قبته و بعض الملاحق .. كانت أمي تحمل الشمع الذي شرطته و أنذرته من أجلنا لجدها، و تسرِّج بها ظلمته، فيما تضع بعض رزم الشمع غير المستخدم في كوة الغرفة أو على حافة القبر؛ لمن يأتي في يوم آخر ليضيء ظلمة جدنا "الشيخ حي" و تفعل أمي مثل هذا أيضا، مع قبر و مقام جدنا الشيخ أحمد القريب منه.. كانت أمي عندما تسرج المكان بالشمع و الضوء تشعر بفرحة غامرة، و سعادة كبيرة لا تتسع لها .. ثم تمد يدها في كوة موجودة على جدار القبر إلى الداخل، و تخرج بعض فتات أو فراتيت التراب، و تأكل منه قليلا، و تعطيني قليلا منه لأكله.. كانت أمي تحثني و تشجعني على التهام التراب الذي تخرجه من كوة القبر، لأنه كما تعتقد مكنوز بسر جدها الذي جاء من حضرموت ليحط به الرحال هنا فقيها و عالما و صاحب كرامات.. لازلت أذكر عندما كانت أمي تشجعني على التهام قدرا من تراب قبر جدها .. كانت تحثني، و تبدأ هي بالتهام بعضه، و تلح بإصرار أن التهم التراب .. لقد كانت تحاكيني و هي تفعل لأفعل مثلها .. تحاكيني كما تحاكي الأم طفلها أو رضيعها، و تشعرني أنني سأخرج من المكان و قد تزودتُ شيئا لم يكن موجودا حال الدخول إليه.. و رغم فقداني للذة التراب الذي كنت معتادا عليه، و أعاني من عقوبة التهامه، و رغم فقدان هذا التراب لنعومته، إلا أن روحانية المكان، و هيبته و جلال المقام، و كرامات صاحبه بحسب روايات أمي، و ما تفيده من محامد جدها، و ما يحمله من سر جدير بالاهتمام، أو هذا ما كانت أمي تلقّني إياه، و ترويه لي بثقة عالية و يقين .. و كنت إذا تعرضت لمرض أو مكروه تدعو جدها "الشيخ حي" و جدتها "جنوب" أن يشفيني و يحييني و يجنبني كل شر، و يزيل عني كل مكروه يصيبني.. الحقيقة كنت أظن و أنا طفل أن هذا التراب الذي ألتهمه هو من بقايا عظام و رفات جد أمي، و لكن في مرحلة متأخرة أدركت أنه من فوق القبر، لا من جوفه، و أن رفاة جد أمي و بقاياه لازال مدفونا بعمق القبر و المكان.. كانت أمي تعتقد أن أكل قليلا من التراب من قبر جدها يفيد في كل شيء، و يحميني من كل شر .. و لكنني لم أجد طعمه بلذاذة التراب الذي اعتدته و تعودت عليه، و كنت ألتهمه سرا أو خفية عن أعين أمي.. كانت أمي تحثني بإلحاح على أكل التراب التي تستخرجه من كوة قبر جدها، و هو حال يشبه تماما وضعها و هي تحثني على شرب لبن البقرة الدافئ من جحف اللبن، بعد أن تنتهي توا من حلب البقرة، و أنا واقفا جوارها مساء كل ليل.. كنت ما أن أنتهي من شرب كمية من اللبن، ترجوني و تلح بصوت خفيت و لحوح على أن أزيد " اشرب .. زيد اشرب .. زيد اشرب .. اشرب مليح .. اشرب".. و صوتها الخفيض كان كمن لا تريد أن يسمع أحد ما بيننا، و تظل تحاول و تحاول أن أشرب المزيد حتى تيأس من أن أعيد .. كانت تحبني أكثر من أبي، و تأثرن عليه في كل شيء، حتى في الحليب الذي كان يتناوله أبي كل مساء.. عندما كانت أمي تمارس الحاحها، و تحملني على شرب المزيد من حليب البقرة، أشعر أنها تريدني أكبر و أقوى بسرعة، بل أشعر و هي تلح إنها تريدني أكبر في الحال .. أما عن أكل التراب، فكانت تعتقد أنها تودعني سر جدها، و تقيني من كل مرض و شر و مكروه.. الحقيقة لم يكن يغريني حليب البقرة، بل كان حليب "النيدو" هو الذي أروقه و يروقني؛ ربما لأنه كان بعض مني، و كان يسد حاجتي، عندما كان لا يكفيني ضرع أمي التي تعاني، و أنا لازلت دون عمر السنتين .. و لازلت إلى اليوم أشتهي أن أكرعه في فمي بكميات كبيرة، كما كنت أفعل هذا في سن الطفولة و سن المدرسة، بل و المراهقة أيضا، حتى أبدو أمام نفسي شخص غير طبيعي، و أنا العط فيه بنهم شره.. عندما كنت طفلا في السنة الأولى مدرسة على الأرجح، رأيت رؤيا، و فيها أنني أممت الناس بالصلاة في المقام، و رأيت "الشيخ حي" و أشياء أخرى نسيت تفاصيها بعد خمسين عام، رغم أن الرؤيا كانت يومها كفلق الصبح من حيث الوضوح و التفاصيل، بل كأنها كانت حقيقة لا رؤيا.. كانت أمي و أبي مهتمان على غير العادة بهذه الرؤيا، و يطلبان أن أعيد روايتها على مسامعهما، و أشاهد سرور دافق و اهتمام لافت منهما بما أرويه .. ربما فهموا الرؤيا إنها تتعلق بمستقبلي البعيد، غير مدركين إن المستقبل في اليمن سيكون للفساد و القتلة و المستبدين .. و الأهم أنني طيلة هذا العمر المديد ظللت متماسكا أحذر السقوط، و أحذر من السقوط المريع مرتين و ألف.. يتبع