غازي الجابري الكرسي ليس مجرد قطعة أثاث من الخشب أو الحديد، بل هو رمز ثقيل يحمل في طياته معنى السلطة والمسؤولية، وأحيانًا، مع الأسف، معنى التسلط والأنانية. أما الوطن، فهو الأم التي تحتضن الجميع بلا تمييز، والأرض التي تُنبت فينا الانتماء والكرامة. بين الكرسي والوطن علاقة معقدة، تتأرجح بين الإخلاص والخيانة، بين الأمانة والطغيان. في الأصل، خُلق الكرسي ليكون وسيلة لخدمة الوطن، لا غاية تُعبد من دونه. الكرسي الحقيقي هو موقع خدمة، لا مكان راحة. يجلس عليه من كُلّف ليحمل همّ الناس، لا من اتخذه وسيلة لجمع الثروة أو لفرض النفوذ. ولكن حين تتحول المعادلة، ويصبح الكرسي هو الوطن في نظر البعض، يبدأ الانحدار، وتُنسى المبادئ، وتُهمّش الكفاءات، ويُستبدل الولاء للوطن بالولاء للكرسي. الوطن لا يحتاج إلى من يتمسك بالكرسي، بل إلى من يتمسك بالقيم. الوطن يحتاج إلى من يترك الكرسي عندما يرى أن غيره أصلح منه، لا إلى من يتشبث به حتى وهو يرى الخراب من حوله. الكراسي لا تصنع الأوطان، بل الرجال المخلصون الذين يجلسون عليها بضمير حيّ، ويتذكرون دائمًا أن الجلوس على الكرسي يعني الوقوف أمام الله والتاريخ. كم من وطنٍ خسر أبناءه بسبب من ظنّ أن الوطن يبدأ وينتهي عند كرسيه، وكم من أمةٍ تراجعت لأنّ من جلس على الكرسي نسي أنّه خادم الشعب لا سيّده! الكرسي امتحان صعب، يفضح النفوس، ويكشف معادن الرجال، فمنهم من يزداد تواضعًا حين يعلو، ومنهم من يزداد استعلاءً حين يجلس. الوطن الحقيقي لا يحتاج إلى من يتباهى بالمنصب، بل إلى من يتواضع في المسؤولية. يحتاج إلى من يحمي الكرسي من أن يتحول إلى عرش، وإلى من يزرع في الأجيال فكرة أن حب الوطن أسمى من حب الكرسي، وأن الرحيل عن المنصب بشرف، أعظم من البقاء فيه بذل. إنّ الكرسي بلا وطن لا قيمة له، والوطن بلا عدالة لا حياة فيه. وما أجمل أن يكون بينهما توازنٌ نبيل: كرسيّ يخدم وطنًا، ووطنٌ يكرّم من خدمه بإخلاص