محمد المخلافي ابني أيهم، ذو الحادية عشر عامًا، لديه شغفًا لافتًا بكل ما يتعلق بالتصفح والاطلاع على وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا اليوتيوب. خياله واسع، وفضوله لا يهدأ؛ يسأل عن كل شيء ويفتش عن إجابات لكل ما يخطر بباله. قبل فترة، قرر من تلقاء نفسه أن ينشئ قناة على اليوتيوب. اجتهد حتى نجح، وبدأ يلتقط صورًا لمشاهد المطر في صنعاء وينشرها على قناته، محاولًا وصف اللحظة بكلمات بريئة. ورغم لطافة ما يفعله، حاولت إقناعه بأن يبتعد عن اليوتيوب الذي أخذ معظم وقته، وأن يركز على دراسته الآن، فالهوايات يمكن تطويرها لاحقًا حين يكبر ويصبح قادرًا على تنظيم وقته بشكل أفضل. وبعد محاولات، اقتنع وتوقف، لكن فضوله بقي كما هو. كان، من وقت لآخر، يعود للاطلاع على صور الأماكن التاريخية، ويسألني عنها بإلحاح. قبل أسبوع، لفت انتباهه (دار الحجر). ظل يسألني عنه، ويعرض عليّ صورًا له، ويطالبني بأن أصطحبه لرؤيته عن قرب. حاولت تأجيل الرحلة أكثر من مرة، لكنه أصرّ. وفي هذا الصباح، رضخت لأمنيته، وأخذته مع أخيه كنان ستة اعوام، وتوجهنا إلى دار الحجر، الذي يبعد نحو خمسة عشر كيلومترًا شمال غرب صنعاء. دار الحجر قصر أثري شامخ في وسط وادي ظهر، مبني فوق صخرة غرانيتية ضخمة. شُيّد في أواخر القرن الثامن عشر، لكنه يستند إلى تاريخ أعمق يعود إلى أنقاض قصر سبئي قديم يُعرف بحصن (ذي سيدان)، بناه الحميريون قبل آلاف السنين. اليوم يُعدّ دار الحجر أحد أشهر المعالم السياحية في اليمن. خرجنا من البيت عند الثامنة صباحًا. كان الجو باردًا، فارتدى الأولاد ملابسهم الشتوية واستعدّوا بحماس. اتجهنا إلى فرزة شملان بجوار الجامعة الجديدة، وركبنا سيارة أجرة. كنّا مكدسين داخلها مثل صناديق موضوعة بشكل عشوائي، أنا وأولادي وراكبان آخران سمان يلتصقان بنا من ضيق المكان. وصلنا إلى نهاية الموقف في شملان، عند المدخل المؤدي إلى طريق وادي ظهر، وقد شعر أحدهم بالغثيان. من هناك، أخذنا دراجة نارية ودخلنا الطريق الترابي المؤدي إلى الوادي. كان الطريق مزدحما بكل ما يمكن تخيله: سيارات، شاحنات، دراجات نارية، وكلها تسير بعشوائية، بينما الغبار يملأ الهواء ويغطي وجوهنا وملابسنا. وأخيرًا وصلنا إلى دار الحجر. بدا شامخًا أمامنا، يعلو الصخرة كأنه جزء منها، كأنما نبت منها لا بُني فوقها. أخذت الأولاد جانبًا تحت ظل شجرة كبيرة عند المدخل. جلسوا منهكين، تركتهم قليلًا ليلتقطوا أنفاسهم ويشربوا العصير، حتى عاد النشاط إلى أجسادهم الصغيرة. نهض أيهم أولًا، عيناه تلمعان بالدهشة، ثم تبعه كنان وهو يشير إلى القصر كأنه يرى قلعة من قصة خيالية. وقفوا أمامه مذهولين. قطعنا التذاكر ودخلنا البوابة. وبمجرد أن تجاوزنا العتبة الأولى، انطلقوا يجرون في كل الاتجاهات، وكنت أنا أركض خلفهما محاولًا إيقافهم لتقط لهم الصور. تنقلنا في أرجاء القصر، مررنا بالغرف الصغيرة ذات النوافذ الضيقة، وصعدنا الدرج حتى وصلنا إلى الطابق العلوي حيث مجلس الامام. ثم اتجهنا الى البئر المحفورة داخل الصخرة والتي تأخذ شكلًا مخروطيًا ينزل إلى عمق كبير، وقد أثارت دهشتهما بطريقة لم أتوقعها. اقترب أيهم بحذر، ينظر إلى الداخل وهو يقول بصوت منخفض: "كيف قدروا يحفروا هذا؟" بينما كنان كان يمد رأسه أكثر من اللازم، فأمسكته من كتفه وأنا أضحك وأمنعه من السقوط. ثم انتقلنا إلى الكهوف المنحوتة في قلب الصخرة، وأخبرتهم بأنها كانت قديمًا تُستخدم كمقابر، حيث كان الموتى يُحنطون فيها منذ آلاف السنين. وانا أتجول في الممرات، عاد بي الخيال عشرين عامًا إلى الوراء. عندما كنت اعمل مرشد سياحي في شركة (العالمية للسياحة). كنتُ هنا، في هذا المكان نفسه، لكن الصورة كانت مختلفة تمامًا.
في تلك السنوات، كان دار الحجر يعج بالحركة منذ ساعات الصباح الأولى حتى الغروب. مجاميع من السواح من مختلف دول العالم يتوافدون تباعًا، تتداخل لغاتهم كأنك في مطار دولي، لا في وادٍ هادئ وسط صنعاء. كانت الحياة تملأ المكان لدرجة أنك تشعر بأنك في مهرجان دائم، لا مجرد زيارة سياحية. المحلات الصغيرة المقابلة للمدخل كانت مفتوحة طوال الوقت: الصناعات الفضية، الملابس التقليدية و التحف التذكارية كانت تباع بالعملة الصعبة. كان بعض سكان القرية يتحدثون أكثر من لغة، كبارًا وصغارًا بسبب الاحتكاك المستمر بالسواح، يلقي عليك التحية بالإنجليزية، ويساومك بالإيطالية، ويضحك مع السائح الألماني دون تلعثم. تم تصوير مسلسل سيف بن ذي يزن التاريخي في هذا القصر عام 2009 بمشاركة نخبة من الممثلين السوريين واليمنيين. بعكس اليوم، بدا المكان فارغًا تمامًا من السياح الأجانب. الممرات التي كانت تضج باللغات أصبحت صامتة، وفقدت وجوه الناس تلك الابتسامة التي كانت تسبق كلماتهم. حتى الأطفال، الذين كانوا يملؤون المكان بحيويتهم وهم يبيعون القطع الفضية الصغيرة والتحف التذكارية، اختفوا هم أيضًا. لكن رغم كل هذا، يبقى دار الحجر شامخًا، يقاوم الظروف وتغيرات الزمن على مدى التاريخ. أتذكر كيف كنا نجتمع في الصباح الباكر، أنا وزملائي، في فناء فندق داود وطلحة وهلتاون وغيرها. كان كل منا يتجه بعد ذلك إلى مجموعته المحددة، بحسب البرنامج السياحي المتفق عليه. كانت معظم برامجنا السياحية تبدأ بزيارة صنعاء القديمة، بأزقتها الضيقة وأبوابها العتيقة وأسواقها المزدحمة وبيوتها العالية المزخرفة بنقوش الجص الأبيض. كنا نتجول فيها مع السواح، نمشي بين الدكاكين القديمة. ومن هناك، ننطلق نحو دار الحجر، ومنه الى مدينة ثلا التاريخية، نمشي بين أسوارها القديمة وبيوتها المبنية بالحجر، كأننا نمرّ عبر بوابة زمن آخر. ومن ثلا نتجه إلى حبابة ثم إلى حصن الزكري الذي يمنحك إطلالة جميلة على الوادي الفسيح. بعد ذلك نواصل الطريق إلى شبام كوكبان، وهناك ينتظرنا موعد الغداء في مطعم (حميدة) الشهير. كانت تقدم اشهى الاكلات اليمنية التقليدية. وبعد الغداء، نصعد إلى كوكبان لنبيت هناك. كانت الليالي فيها مختلفة؛ البرد لطيف، والسماء صافية، والنجوم تلمع. كنّا نقضي الوقت مع السواح. نستمع إلى أغاني التراث اليمني ونرقص (البرع) مع السواح حتى منتصف الليل. كانوا يحاولون تقليد حركاتنا، ثم يتحمسون شيئًا فشيئًا. كنا نضحك ونعلمهم كيف يمسكون بالجنبية ويضبطون إيقاع الخطوات. وفي الصباح الباكر نواصل رحلتنا باتجاه وادي النعيم، ثم نعبر إلى الأهجر و الطويلة والرجم، حتى نصل إلى المحويت (المصنعة)، تلك المدينة القديمة الهادئة التي تأسر زائرها بأزقتها الضيقة وبيوتها العتيقة. لنقضِ ليلتنا هناك. وفي اليوم التالي، وقبل أن تشتد الشمس، نعبر سائلة وادي سارع، نسير بمحاذاة مياهها المنسابة بين الصخور، ثم نتابع الصعود نحو نقيل القدم الذي يكشف لنا مع كل خطوة مشاهد جديدة تمتد حتى الأفق. وبعد استراحة قصيرة نكمل طريقنا إلى مناخة. في مناخة نزور الهجرة والكاهل، تلك القرية المعلّقة فوق السحاب، ونعرّج أيضًا على حصن الحيمي وغيره من المواقع السياحية التي تحكي تاريخ المنطقة وروحها. ومع غروب الشمس نعود إلى فندق العسكري في مناخة، المكان الذي تتجمع فيه الوفود السياحية، ويتبادل فيه المرشدون قصص رحلاتهم قبل أن يطوي الليل صفحة يوم آخر من المغامرة. ومن هناك نعود إلى صنعاء لنستعد لمرحلة جديدة من الرحلة، مرحلة تمتد هذه المرة نحو الشرق. ننطلق أولًا إلى براقش القريبة من مفرق الجوف، بقايا مدينة يعود تاريخ بناءها الى القرن الخامس قبل الميلاد. ومن براقش نتابع طريقنا إلى مأرب، مدينة التاريخ والحضارة، نزور سد مأرب الشهير وعرش الملكة بلقيس ومعبد اوام ومعبد الشمس، ونستعيد بين أطلالها شيئًا من عظمة سبأ ووهجها القديم. بعد مأرب نعبر صحراء الرملتين باتجاه شبوة، ثم نواصل إلى شبام حضرموت، المدينة التي قامت فيها أولى ناطحات السحاب في التاريخ، والتي لطالما سُمّيت ب (منهاتن الصحراء) لجمال عمرانها الطيني وروعة هندستها. ومن هناك نتجه إلى تريم الغنّاء مرورًا ب قصر سيئون، ذلك البناء الضخم الذي يعود تاريخه إلى ما قبل الإسلام، قبل أن نتابع رحلتنا نحو حضرموت وعدن ولحج، نستكشف مدنها وأسواقها وشواطئها وحكاياتها الممتدة عبر الزمن. وبعد هذه الرحلة التي تجمع بين الجبال والوديان والصحراء والبحر، نعود أخيرًا إلى صنعاء. كان أكثر ما يجذب انتباهي دائمًا هو العم سعيد شريان، أقدم المرشدين في شركة العالمية للسياحة. كثيرًا ما كنت أراه يقود مجموعاته من السواح، والتي كان يصل عددها أحيانًا إلى أكثر من عشرين سائحًا، مستخدمًا الميكروفون لتوجيههم وشرح المعالم التاريخية بحماس. كان دائمًا متفائلًا، يحمل في قلبه حلمًا بمستقبل أفضل للسياحة ولليمن. وها هو اليوم وهو يقترب من عقدة السابع، يقف في فرزة التحرير هائل، وبيده ورقة صغيرة يدون عليها أسماء سائقي الباصات، وينادي على الركاب المتجهين إلى شارع هائل، تحت حرارة شمس الظهيرة الحارقة، وفي ليالي برد الشتاء القارس. بعيدًا عن الجبال والمواقع التاريخية التي عرفناه فيها يومًا. عند الظهيرة، عدنا إلى البيت نحمل ذكريات لا تُنسى. عاد أيهم وكنان بمزيج من الدهشة والسعادة، وأنا عدت بسعادة أكبر لشغفهما وفضولهما الذي أعاد لي ذكريات الماضي.