فهمي محمد مع اعتقال الكاتب المبدع محمد المياحي، اتجهت الأنظار إلى الدكتور المفكر حمود العودي، ليس خوفاً على هذا الأخير من الاعتقال السياسي، بل تعويلاً على دوره في مسألة الإفراج عن الكاتب محمد المياحي. ولأن العودي كان يدرك مثل هذا التعويل عليه ودوافعه، فقد تحرك بهذا الخصوص وأطلق تصريحاً بعد أيام قليلة من اعتقال المياحي، مؤكداً أنه سيتم الإفراج عنه خلال الأيام القادمة. ربما كان يعول على بقايا قيم وتفاهمات ضرورية لدى بعض الشخصيات داخل سلطة الحركة، وهو ما يفترض أن تتحلى به الحركة الحوثية ولو على المستوى الشكلي لم يحدث الإفراج، ولم يعد المياحي إلى أهله وأطفاله حسب كلام الدكتور حمود العودي، بل أخذت القضية مجرى آخر. ربما لأن المليشيات بمفهومها العقائدي هي التي تتمكن يوماً بعد آخر من إحكام سيطرتها المطلقة على مفاصل السلطة في صنعاء، وتعمل في نفس الوقت على إزاحة وتهميش بعض الشخصيات التي كانت تفتح بعض قنوات التفاهم والاتصال مع العودي وغيره. وهذا ما يُفهم من حديث الشيخ سلطان السامعي في إحدى مقابلاته التلفزيونية. مع تحول قضية المياحي إلى المحكمة، لم يتلاشى فقط تعويل الكثيرين على دور حمود العودي في مسألة الإفراج عن المياحي، بل تحول الأمر إلى صدمة كبيرة عند هؤلاء حين أصبح العودي نفسه يقبع داخل سجون الحركة الحوثية بكل حمولته الفكرية والوطنية، فمن كان يحاور السجان في مسألة الافراج عن البعض أصبح هو المسجون الذي يطلب الجميع الإفراج عنه ! إذا كان اعتقال المياحي لم يفاجئ الكثيرين، ولكنه فتح باب التساؤلات المتعلقة بطول فترة الاعتقال وتحويله إلى محاكمات وأحكام قضائية على خلفية مقال كتبه في صفحته الشخصية، فإن اعتقال القامة الثقافية والوطنية حمود العودي والزج به مع اثنين من زملائه، يعد في حقيقة الأمر مشهداً تراجيدياً لا يعكس سوى تلك الحقيقة القائلة: إن العلم والفكر بالمعنى التنويري يمثلان ألد خصوم الحركة الحوثية. ناهيك عن أن يكون العلم والفكر معاً يشكلان شخصية الدكتور حمود العودي ومستقبل المياحي. بالمنظور القيمي والأخلاقي وحتى الإنساني، يظل اعتقال المفكر حمود العودي والكاتب المياحي محل استنكار ورفض كبير، يتسع بقدر سذاجة الحركة الحوثية ومشروعها السلالي. لكن في منظور الحركة الحوثية وأيديولوجيتها وحساباتها السياسية، الأمر مختلف كثيراً وغير قابل للتغاضي والتهاون، وقد يحدث مع مثل هؤلاء الاثنين ومن على شاكلتهم أكثر من مجرد الخطف والإخفاء والاعتقال السياسي. مع هذين الاثنين، لن يكون الاعتقال وحتى المحاكمة والأحكام الصادرة في حق كل واحدٍ مجرد توجيه رسائل رادعة للآخرين بهدف تشديد القبضة الأمنية للحركة، أو افتعال أزمات بهدف الهروب من مجرد استحقاقات. الأمر في مسألة اعتقال هؤلاء يتعلق بجوهر الشخصيتين، والهدف منه إسكات صوتهم التنويري القادر على دحر الكهنوتية السياسية والدينية وتفنيد قداستها الاجتماعية التي عادت لتتشكل في اليمن مع سيطرة الحركة الحوثية على مقاليد السلطة بزعامة عبد الملك الحوثي. في آخر مقالين على صفحته، ستجد الاستثنائية الفكرية للكاتب المياحي تتجلى وتؤكد وطنياً أنه قد قرر أن يخوض معركة المواجهة التي تؤسس للوعي الوطني الرافض للحركة الحوثية ولشخص زعيمها السلالي عبد الملك الحوثي الذي يفتقد لأدنى مواصفات القائد الذي يجب أن يقود اليمن، وهذا لا يمكن أن يكون منفصلاً عن إدراك المياحي نفسه للثمن الذي سيدفعه في هذه المعركة. فالمياحي يشن هجوماً شاملاً وممنهجاً على الأساطير التأسيسية لقائد "ضحل" و"زائف" ولسلطة الحركة الحوثية بشكل عام. بمعنى آخر، يحاول الكاتب "كسر التابو" المتمثل في شخص عبد الملك الحوثي وهالة القداسة والرهبة التي تحيط به، وفي نفس الوقت يعمل على "إعادة التطويع" الفكري والنفسي للجمهور، مشجعاً إياهم على رؤية هذا الشخص والحركة ليسا كقدر محتوم أو قوة غالبة، بل ك"باطل مكتمل الصورة والأركان" وهو ما يجب مقاومته نفسياً وعلنياً ومن داخل العاصمة صنعاء. وفي المقابل، تدرك الحركة أن انتشار هذا الخطاب وتلقينه للناس وترسيخه في الوعي والوجدان الجمعي، يقوض أركان سلطة السيد عبد الملك وشرعية الحركة من جذورها، ويجعل بقاءه مرهوناً بالقوة الخالصة فقط، دون أي غطاء شعبي تعمل الحركة جاهدة منذ اللحظة الأولى للانقلاب على صناعته، لهذا توجهت إلى أدلجة الوعي المجتمعي لهذا الجيل عن طريق المناهج الدراسية والمعسكرات الصيفية وعبر المساجد والإعلام. صحيح أن هناك أشخاصاً من داخل صنعاء كتبوا وانتقدوا تصرفات الحركة الحوثية وسلوكيات أفرادها مثل أحمد حاشد وعبد الباري طاهر وخالد الرويشان وأكثرهم تأصيلاً قادري أحمد حيدر، لكن استثنائية المياحي تكمن في تعرية الأسطورة التي بنتها الجماعة في شخص عبد الملك الحوثي وإسقاط قداسته الزائفة كشخص ضحل يتكلم كثيراً ولا يقول شيئاً حسب وصف الكاتب في منشور آخر، ناهيك عن الدعوة الصريحة لمقاومته ورفض مشروعه السلالي كشخص جاهل وبالاسم ومن داخل العاصمة صنعاء. على نفس الصعيد، لم يكن الأمر مختلفاً مع الدكتور حمود العودي. مع أنه لم يكن نزقاً في كتاباته ضد الحركة، وقدم نفسه كوسيط ومتدخل وصاحب مبادرات إنسانية مع سلطة الأمر الواقع بدواعٍ إنسانية. لكن هذا المفكر اليساري، صاحب التاريخ العتيد والمؤلفات الفكرية الناقدة للماضي والحاضر المتخلف في اليمن، لا يمكن أن يظل كائناً مسالماً وحمامة سلام في حظيرة الحركة الحوثية، خصوصاً وهو يشاهد الكهنوتية السياسية والدينية والاجتماعية تعود بأبشع صورها إلى العاصمة صنعاء بعد ثلاث ثورات ووحدة في اليمن. على هذا الأساس القائم على استحالة المساكنة والقبول بمشروع الحركة، تم تفعيل مركز دال للدراسات الاجتماعية وتحول منزله إلى منتدى فكري داخل العاصمة صنعاء، وأصبح هو المكان الذي يحضر فيه العودي المفكر والمنظر ورجل التنوير السياسي والاجتماعي الرافض للخرافة وعودة الكهنوت واللا معقول وليس العودي صاحب المبادرات الإنسانية. صحيح أنه لم يتحدث للعوام بشكل مباشر عن شخص عبد الملك الحوثي أو عن انقلاب الحركة الحوثية، ولم يدعُ بشكل مباشر للخروج على زعيم الحركة. وصحيح أن الحركة الحوثية منذ أن سيطرت على العاصمة صنعاء بزعامة عبد الملك الحوثي لم تعتقل حمود العودي المتدخل وصاحب المبادرات الإنسانية، حتى وإن كان يحرجها في بعض المطالب مثل فتح الطرقات والإفراج عن المعتقلين. لكنها في المقابل وضعته تحت مجهرها السياسي والأمني ومن ثم اعتقلت حمود العودي الحاضر في مركزه ومنتداه التنويري، حمود العودي المفكر والمتكلم القادر على نسف الأساطير السياسية والأيديولوجيات الدينية التي تؤسس لحكم السلالة وسلطة الإمامة. وهذا بحد ذاته لا يستدعي الاستغراب في مسألة الاعتقال، بل العكس من ذلك هو من يستدعي الاستغراب، فمن تم اعتقاله اليوم ليس العودي الذي راهن عليه الكثيرون في مسألة الإفراج عن المياحي، بل العودي المفكر الذي خاض عبر عقود من الزمن معركة التغيير وصناعة الوعي الوطني الذي يتجلى اليوم في حروف الكاتب محمد المياحي وثقافته الوطنية. ليس من المنطقي أن نستغرب أو نتساءل عن اعتقال مثل هذين الاثنين. يكفي أن يصوغ العودي كلمة الوعي الوطني على مسامع الحاضرين في مركزه أو منتداه، وأن يكتب المياحي حروفاً وطنية يقرأها العوام في صفحته الشخصية، و بسبب هذا وذاك سوف يتحول التنوير إلى تهمة في صنعاء وسوف تفتح أبواب السجون على مصراعيها للاعتقال السياسي ولن تغلق إلا مع قطع آخر رأس للوعي السياسي الوطني على عيدان المقصلة. في الختام، نستطيع الجزم بالقول: منذ انقلاب الحركة الحوثية في 21 سبتمبر 2014م وفي ظل سلطتها السياسية الحاكمة حتى اليوم، لا شيء في صنعاء يتعاطى مع مستقبل اليمنيين غير مقصلة السيد وسجن الحركة ومتهم رئيسي يصلب كل يوم اسمه الوعي الوطني.