اعتقد حزب الله وقادته أن أصوات الناخبين ستأتي بكل خصومهم الداخليين والخارجيين إليهم لتقديم فروض الولاء والطاعة، واعتقدنائب أمين عام الحزب نعيم قاسم أن أميركا نفسها ستقبل بالأمر الواقع، وتغير سياساتها تجاه لبنان، بيد أن الأصوات ذهبت عكس ذلك، وأوقعت الحزب وقادته في ورطة استحقت شماتة الخصوم جميعاً داخل البلاد وخارجها، وجاءت الانتخابات الرئاسية في إيران لتؤكد حقيقة أن حزب الله سيعاني كثيراً في المستقبل إذا لم يغير سياساته الموجهة نحو الداخل والخارج. فبرغم فوز المحافظ محمود أحمدي نجاد بكرسي الرئاسة لولاية تالية، وهو الرئيس الذي نسف كل ما أنجزه سلفه محمد خاتمي لإيران من حضور دولي، وقبول عالمي، وحظي عهده بوفاق شبه دائم بين إيران ودول المنطقة، والغرب، فيم اتجه هو إلى إنجاز أكبر قدر من العداء لإيران، وأوشكت البلاد في عهده إلى الدخول في صراع دولي من أجل برنامجها النووي، والذي يعتقد جميع جيرانه أنه سيكون وبالاً على المنطقة برمتها في حال أمكنه إنتاج الأسلحة الفتاكة. ربما أدرك حزب الله أن فوز نجاد بالانتخابات الإيرانية لا يعني شيئاً أمام حقيقة الرغبة الداخلية في التغيير، والتي برزت على هيئة انتفاضة شعبية شبابية لم تتوقف حتى اللحظة، ويبدو أنها ستذهب بعيداً، وقد تعمل على إسقاط نجاد، وتغيير الوضع برمته، ومن هذا بدأ حزب الله السير في طريق المصالحة الداخلية، والعمل على إنهاء أجواء الأزمة قبل أن تأتي أحداث إيران على ما تبقى من قدرته على الصمود في وجه الرغبة اللبنانية في تحقيق سلام يشمل الجميع، ويتشارك فيه الجميع. يدرك اللبنانيون أن المقاومة طريق لا مفر من عبوره في كثير من الأوقات، ولا يختلفون كثيراً إلا حول شكلها وطرائق عملها، فثمة من يريدها دينية وتقوم بها طائفة واحدة نيابة عن ليس اللبنانيين فحسب؛ وإنما عن جميع العرب والمسلمين، فيما يرى آخرون أن تكون وطنية، وموجهة للدفاع عن البلد، وألا تذهب بنفسها للبحث عن الحرب كون لبنان لا تحتمل المزيد من الحروب، وليست ساحة لتصفية حسابات وخصومات الآخرين، ولا يوجد ما يبرر أن تكون هي الخط الأمامي في الدفاع عن الآخرين. دعا رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط إلى الشراكة الوطنية، وطالب بقانون انتخابي جديد يبقي على الحذر من إسرائيل وخصوصاً في الجنوب، كما تغيرت لهجته عند الحديث عن سوريا التي اعتبرها العمق الاستراتيجي في مواجهة إسرائيل. قد تبدو التقاربات الأخيرة بين أطراف النزاع في لبنان متناقضة مع الكثير من المواقف السابقة على الانتخابات الأخيرة، لكنها أيضاً تحمل الكثير من المصداقية، ولهذا يبدو حديث جنبلاط عن خطر إسرائيل، وأهمية سوريا للبنان حاملاً لنوايا حقيقية كون الاقتراب من الخصم الداخلي الخطير أكثر أمانا من الركون على الصديق الخارجي البعيد، وبالمثل فإن سعي حزب الله إلى الانفتاح على بقية الأطراف يبدو قائماً على قناعة بأن ذلك أسلم من الاعتماد على حليف خارجي بات يعاني عوامل العجز والسقوط. لا معنى إذاً لتبادل الاتهامات بمال سعودي أحضر السنة من المهجر ليصبوا أصواتهم ضد الشيعة، ومساندة أميركية، فبالمثل كان ثمة مال إيراني، ودعم سوري، وبين الدعمين والمالين كان الصوت المسيحي فاعلاً، فأنجز النصر لصالح قوى 14 آذار، ولكن... لجنبلاط أيضاً حساباته التي تدفعه للتفكير كثيراً بعد أزمة 7 مايو عند أي قول أو تصرف، فهو يدرك أن الطرف الآخر مستعد لإراقة أنهار طويلة من الدماء إذا ما اقتضته الحاجة، وأن السلاح الذي يقالأنه معدٌ للتصدي للعدو القادم من الجنوب، بل ولماهجمته أيضاً، سيكون من السهل جداً تصويبه نحو الداخل، والعودة ببيروت إلى أيام السبعينات الثمانينات من القرن الماضي، وأنه لن يكون ثمة معنى لطرد الجيش السوري من لبنان ما دامت البلد ستدخل في حرب تأتي على كل شيء. وبمثل ما اندفع نصر الله إلى المصافحة، والبحث عن مصالحات وانفتاح وشراكة كان يرفضها قبل ذلك؛ كان لا بد لجنبلاط أن يتجه هو الآخر إلى تسليم نفسه لجنود كانوا قبل عام وأيام معدودة يبحثون عن رأسه، لكن قبل أيام أسلمهم جسده ليقتادونه بحفاوة وسط الغموض الذي يلف المكان للقاء نصر الله وجهاً لوجه، والتباحث في أمور المصالحة، والشراكة في الحكم. تقر جميع أطراف السياسة في لبنان أن نتائج الانتخابات الأخيرة بنيت على أساس رفض الآخر، والتصويت لصالح الطائفة أكثر من التصويت لصالح البلد، فذلك هو النتاج الطبيعي لقانون انتخابات طائفي اكتسب شرعيته من اتفاق الدوحة، فأسقط القانون الوطني، وعاد بلبنان عقود كثيرة إلى الوراء، ولكن ربما لأن الوضع لم يختلف كثيراً، وإن كانت الحروب الأهلية جاءت في وجود قوانين ديمقراطية حقيقة، فالذي تغير في لبنان أن الانقسام الطائفي لم يعد أفقياً الآن، بل إن الكثير من العوامل الداخلية والخارجية أوجدت تقسيماً عمودياً اختلت معه موازين القوى، وتغيرت التحالفات، ولكن صار عند اللبنانيين ما يكفيهم من المآسي، ولهذا يبحثون اليوم عن الهدوء والأمان، والبهجة التي سيواجهون بها حياة معيشية صعبة. يقضي الدستور اللبناني بتوزيع المقاعد النيابية بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين ونسبيا بين طوائف كل من الفئتين وبين المناطق، وقسمت المقاعد النيابية ال 128 إلى27 مقعدا للسنة، و27 للشيعة، و34 للموارنة، و14 للارثوذكس، وثمانية للكاثوليك، وثمانية للدروز، وخمسة للأرمن الارثوذكس، واثنان للعلويين، وواحد للأرمن الكاثوليك، وواحد للأنجيليين، وواحد للأقليات. إن نظاماً طائفياً هو نظام غير ديمقراطي في الأساس، أو أنه نظام ديمقراطي طائفي إن صحت التسمية، وبرغم التقسيم الطائفي للدوائر النيابية في لبنان بحسب الدستور؛ فإن النظام هناك يعدُّ من أكثر أنظمة المنطقة ديمقراطياً، فعلى الأقل تتم الانتخابات بنسبة نزاهة وشفافية أكثر من غيرها -باستثناء إسرائيل بالطبع- ويقتضي الدستور الذي قسمت الدوائر بموجبه المساواة بين الطوائف بشكل يكاد يرضي الجميع. بيد أن القانون الانتخابي الحالي أعطى مقعداً وحيداً للأقليات المسيحية التي هي أكثر مرتين من العلويين، وثمة نماذج أخرى لعدم المساواة بين الطوائف في هذا القانون كعدم المساواة في عدد سكان الدوائر، وغير ذلك من الاختلالات التي أنتجها النظام الانتخابي الطائفي، وهو ما أدى إلى التكتلات الغير مبررة -وطنياً على الأقل- خلف زعامات وقيادات طائفية. وأكثر ما أنتجه النظام الانتخابي الحالي هو الصعوبة التي يواجهها المستقلون في الحصول على الأصوات والوصول إلى البرلمان، بالإضافة إلى أن الحاصلين على عضوية المجلس النيابي لا يشكلون نخباً مجتمعية قادرة على صناعة التغيير المنشود، وهذه ربما تكون أفدح الخسائر التي يلحقها هذا النظام بالبلد الصغير والطموح، حيث أن مهمات التغيير في الأنظمة الديمقراطية تناط بالبرلمانات النخبوية الحقيقية القادرة على تشكيل انعطافات محورية وهامة في النظم والقوانين والثقافات أيضاً. ومن منتجات هذا النظام أيضاً صناعة ديمقراطية توافقية تمنع حدوث حراك حقيقي في الساحة السياسية والمدنية والاجتماعية، وبدلاً من ذلك تنتج أزمات متلاحقة ومتكررة كما كان حاصلاً خلال الأربع سنوات الفائتة. حينما تتنقل داخل بيروت، وتستمع إلى أحاديث الناس قلما تجد عبارات طائفية، أو تلمس إحساساً بالكراهية بسبب الطائفة،.. شبع الناس من هذه الأشياء التي لم يكن ينبغي لهم أن يعرفوها من قبل لولا أن الكبار في الداخل والخارج هم من يخططون لكل شيء، وعندما عصفت ببيروت حرب أهلية ماراثونية خرج الجميع منها بخسارات لم تتوقف حتى الآن، ويجدون الآن أنفسهم يتحسرون عليها، ويبكي حتى الذين لم يعيشوها على أناس كثيرون غيبتهم الحرب، وعلى أشياء جمة خسرتها لبنان بسببها، وتبقى بيروت حاضنة بقوة للكثير من شواهد الحرب، وما تزال خطوط التماس مصرة على الاحتفاظ بصور قوية وحية من مشاهدها، بنايات مثقوبة بملايين الطلقات، وجدران تشم فيها رائحة البارود والدخان، حتى لكأن العابر بينها يسمع أزيز الرصاص، وترن في أعماقه أنات القتلى والجرحى، ولكن المرء يكون قادراً ببساطة متناهية على استفزاز الروح اللبنانية الحية والطيبة بالسؤال عن الحدود بين بيروت الشرقية والغربية، كون تلك التسميات لم تعد موجودة سوى في ذاكرة غير اللبنانيين الذين كانوا يتسقطونها من أخبار جحيم الحرب التي لا ينبغي لها أن تعود. سيكون على حزب الله منذ الآن تغيير خططه وطرائق عمله، بل والتنازل عن الكثير من مناطق سيطرته ونفوذه، وأن يدع الكثير من الهواء يدخل إلى رئات الناس الباحثين عن الحرية والبهجة، فقد ضاق الحال كثيراً ولا أجد يستطيع أن يبرر منع التصوير في الضاحية الجنوبية، أو الخوف من صور فوتغرافية لن تكون أهم أو أخطر من صور الأقمار الصناعية بالتأكيد. [email protected]