"فجعه بالموت يرضى بالحمى"؛ مثل شعبي نسمعه ونردده كل يوم، وفي أي مكان، يلازمك منذ مولدك وحتى الممات، مثل يحكمنا بالأبدية، والقضاء والقدر. إنه مفتاح للدخول والسباحة والبرخثة والعبث في دهاليز شخصيتك، وتسجيل الأهداف المبتغاة، حيث يحاصر الإنسان ويضعفه، ويقحمه للاختيار بين موتين، وأقلهما فجيعتين: فإما أن يموت، وأضعف الإيمان أن يصاب بالحمى، وبأداة بينهما اسمها "الفجعة"/ "فجعه".. قد نستسهل مبدأ "الحمى ولا الموت"، لكن الحمى في بلادنا أحد أوجه الموت، وما أكثر أنواعها، ابتداءً من حمى الحصبة، وانتهاء بحمى الضنك التي حصدت خيرة شبابنا، وأطفالنا في تهامة وتعز. ** ثقافة المثل (الموت/ الحمى/ الفجعة)، صنعت منا شخصيات سيكوباثية، قلقة، خائفة متوجسة، مترقبة، هلوعة، تبحث عن "قشواش النجاة"، أكان قشواشاً مادياً، أم قشواشاً من الغيب والخرافة، وما أكثر الأخير في بلادنا التي تعمها الأمية والتجهيل المنظم. لقد حولونا الى كائنات ملبدة، مهووسة بالخوف والفجيعة، وبما ستقذفه لنا السلط السماوية والأرضية، وما ثقافة المعتقد ب: "المخلج، و"السائر"، و"قلبي يرجف"، وخير اللهم اجعله خير، ويا كتكت كن اسمع الناس واسكت، إلا نتاج واعتمالات هذا الحصار اليومي بين ثلاثية عدم (فجيعة وموت وحمى). ** استبشرنا في 15 يناير 2011، بربيع شبابنا يخرجنا من مقابض فواجع الموت ومباغتات الحمى، شباب رافضون للموت والفجعة معاً، لكن بنفس الأدوات الصانعة لهذا المثل اشتمت حياة جديدة يمكن أن تخرج من هذا الحصار، فصرعتنا جميعاً بثورتها الفتاكة من فصيلة "فجعه بالموت.. يرضى بالحمى"، كونها المقاول الوحيد له. ** لقد جرى الشغل على نفسياتنا من قبل العصابات وخبراء الكوارث أبطال مثل "فجعه..."، بنفس منطق ألعابنا الطفولية "الذيب.. الذيب ياباه.. سعليكم يا جهالي"، لعبة المساء، وفي الصباح يأتي وقع لعبة "حجنجلي، يا أبو علي".. هذا الاستذئاب اشتغل علينا نحن أبناء اليمن، لعقود طويلة، وبثنائيات غرائبية: فجعه بالانفصال يرضى بالفيدرالية.. فجعه بالحرب الأهلية يرضى بالمبادرة والتسوية، بل ويرضى بالانفلات الأمني ومرافقي المشائخ والعسكر والعصابات في المدن.. فجعه بالمعسكرات الملاصقة لشارعك، ومدرسة ابنك، ومسجدك، والسوق، والحديقة، يرضى بأن يرفعوا المعسكرات الى التبة والجبل المطل على بيتك وغرفة نومك. فجعه بصالح وعياله، يرضى بعلي محسن وعوائله من المحيط الى الخليج، فجعه بأحمر أحمد علي، يرضى بأحمر حميد وإخوته، فجعه بالإصلاح أبو براءة اختراع وفتوى قتل الجنوبيين، يرضى بزواج صغيرات الحزمي، وصعتر والصبري.. فجعه بالمخدرات يرضى بالقات. فجعه بالمرأة المتمردة على فكر الوصاية، الكاشفة، السافرة، وحمّلها بالكفر والنجاسة، والماجنة، والداعرة، يرضى ب"المَكلف" المغلولة بالسواد، التي لا تعرف سوى موتين وفجيعتين: قفص الزوج والقبر.. فجعه بالعلمانية، والليبرالية والمدنية، وحملهم بالشيوعية والإلحاد، يرضى بالقبيلة والخلافة الإسلامية.. فجعه بالفيزياء وعلوم الفضاء وأرمسترونغ، وفيليكس، يرضى بالفيزياء الإسلامية للعالم عبدالمجيد الزنداني، وعلاج الإيدز، والقلب والفقر، والدكاك، والعلامة مقبل وعلاجه الإسلامي الطارد الديدان... وهكذا. ** تتمادى نفسياتنا المحاصرة، بل والضاجة بالتهشم، حيث تصل الى تسوية نفسية مهلكة أيضاً، فنصل إلى تعمية: "عادي لو قتلوا منا قليل هنا وهناك، وبسطوا على البقع والشوارع، بل سنترك لهم البلد، ويعملوا بها ما يريدون، بس يتركونا في حالنا، نشتي منهم شوية أمان"، ثم بنفسية الإنسان القدري، ندمدم "الحمى ولا الموت"، وقضاء أخف من قضاء" و"ما جاء من السماء حيا به، والمؤمن مستمحن" و... و... الخ". ** ولذا كل قادتنا وفقهائنا، ومشائخنا، في السلطة أو المعارضة، أو حماة التغيير الثوري، يعرفون كيف يتعاملون مع شعوبهم، بدايةً بتجريعهم "الفجعة والهديمة/ الموت"، لتنتهي بالرضوة "الحمى". ** ما بين "الفجيعة والرضا"، وعوالق الموت المختلفة، يضيع إنسان سوي، ليستبدل بإنسان ذهاني متروس بالفصام والكذب والمداهنة والشك المرضي، إنسان معكوم بالتعصب، جل عمره يقضيه في البحث عن عدو، عدو نفسه وعدو للآخرين، تستهويه بهوس جامح فكر التربص، والهويات، والعرق والفصل، والدين، والصراعات البليدة للغزو الفكري، والعولمة، والخصوصيات، والعادات والتقاليد العريقة، وبطولات الأمم العاجزة "خير أمة" و"الإيمان يمان والحكمة يمانية"، مخلفة الإنسان الحطام، الإنسان المتشيئ. ** في مثل حالنا اليوم، ألا ينفع لهذا البلد المنهك، أن يكون سوياً، يرفض الموت والفجعة معاً، ويرفض أيضاً علاجها بميسم السلطة و"قطر حديد" فقه وفقهاء الدين/ الوهابي؟ ألا يصح أن نكون بشرا بلا عاهات، ونرفض أن تظل حياتنا مركبة على خازوق بشوكتي ميزان من تحتها هاويات ومحارق: إما الموت وإما الحمى..؟! فكيف تشوفووووووا؟