من المعلوم أن دولة إيران الإسلامية قد تأسست بفعل ثورة دينية، لها ثقافتها وأدواتها وغاياتها المنبعثة من فكرة (ولاية الفقيه). وكذا لها مشروعها العالمي الخاص القائم على فكرة (تصدير الثورة). وبما أنها دولة تقوم على فكرة دينية، فقد منح الدستور الإيراني المرشد الأعلى للدولة العصمة المطلقة على كل السلطات. لقد تبنت دولة إيران الإسلامية فكرة (تصدير الثورة) منذ قيامها عام (1979م)، وبسبب هذه الفكرة قامت حرب طاحنة بين العراقوإيران مكثت ثمان سنوات، تحملت تكلفتها جميع دول الخليج العربي، في سبيل إيقاف هذا المشروع، وإماتته في المهد. إلا أن ثباته وتماسكه وتطوره في مختلف المجالات لم يبقه على قيد الحياة فحسب، بل مكنه من تحقيق بعض أهدافه وغاياته، من خلال مؤسسات علمية ودينية واجتماعية وثقافية وأمنية، مهمتها تهيئة الأجواء والتخطيط لتمكين الثورة الإسلامية، وتصديرها إلى مختلف شعوب العالم. وحتى لا نقع تحت تأثيرات الأنساق المضمرة، سيكون الحديث بعيداً عن لغة التشكيك في نوايا المشروع الإيراني من قضايا الأمة الإسلامية، فمن حقه الحديث عن الإسلام وقضاياه، لأن قوميته أو لغته غير العربية لن تمنعه من الاهتمام بشئون الأمة الإسلامية. فلا فرق بينه وبين بعض المشاريع العربية التي جعلت من الإسلام مرجعية لها. فإذا كانت تلك المشاريع العربية تقوم على نظرية (الخلافة)، فالمشروع الإيراني يقوم على نظرية (الإمامة). وبالتالي فإن إيران دولة إسلامية تطبق شرائع الدين ومقاصده بناء على فقهها وثقافتها وعقيدتها المذهبية. ولا أعتقد أن مسئولية حماية الدين الإسلامية خصوصية عربية فقط، وأنه ليس من حق المسلمين في الدول غير العربية الكلام عن الإسلام، والدفاع عن قضاياه المصيرية، كقضية فلسطين، مثلاً. وانطلاقاً من هذه الرؤية البعيدة عن التعصب للجنس أو الهوية، سيكون النظر إلى المشروع الإيراني، من خلال عمل مقارنة بين مخططات المشروع الإيراني وآلياته وطموحاته، وبين مخططات المشاريع العربية المزعومة وأساليب حياتها. ولا شك في أن هذه المقارنة ستثير الحيرة والدهشة. فعلى مستوى المشروع الإيراني نجده حاضراً بقوة، وله فاعلية وآثار في معظم بلدان العالم، عن طريق مؤسسات علمية ومراكز دينية وثقافية، بنتها إيران وتشرف عليها في كثير من دول العالم العربي والغربي بما في ذلك أمريكا. حيث تعمل هذه المؤسسات والمراكز على وفق منهجية علمية؛ لإحياء الفعاليات والمؤتمرات السياسية والدينية والثقافية الداعمة للسياسة الإيرانية الخارجية. فضلاً عن بناء مراكز ثقافية إيرانية خاصة هدفها تعليم الثقافة الفارسية ونشرها، ومد يد العون للراغبين في الدراسة في دولة إيران، ومساعدتهم مادياً ومعنوياً. وهو ما يؤكد أن المشروع الإيراني له آفاق واسعة، وإرادة تؤمن بما تسعى إلى تحقيقه من أهداف، وله آليات متعددة، منحته النجاح بامتياز. فبالإضافة إلى ما سبق، له منظمات خاصة شيعية توجد في معظم دول العالم، يُقدم لها الدعم بسخاء لممارسة مهامها على أفضل وجه، منها: طباعة المنشورات الدينية وتوزيعها، وكذا نشر ثقافة التشيع، ودعم الطلاب والمؤسسات الصحية والثقافية والاجتماعية، بغية تمتين علاقاتها بشعوب العالم، وكسب ولائها لصالح المشرع الإيراني. زد على المراكز والمنظمات والمؤسسات الثقافية والدينية والسياسية، ثمة مراكز وقوى أخرى تهتم بالجوانب الخدمية المتعددة، كبناء المدارس وشق الطرق، وتوفير الماء والكهرباء. وهي جميعاً تروج للمشروع الإيراني، وتلمع وجوده الحضاري والإنساني. أما ما يخص المساعدات التي تقدمها إيران لحركات المقاومة في بعض دول الوطن العربي، وغيرها من دول العالم، فهي مساعدات متنوعة وهائلة جداً، إعلامياً وثقافياً ومعنوياً ومادياً وعسكرياً. وهناك مؤتمر ينعقد مرة كل عام في طهران لدعم الانتفاضة الفلسطينية، ولا أحد يستطيع ينكر تصريحات قادة حركتي (حماس) و(الجهاد الإسلامي)، وغيرهم من قادة حركات المقاومة في فلسطين، واعترافهم علانية بدور إيران الداعم بسخاء لهذه الحركات، والذي لولاه ما استطاعت الصمود في وجه العدو الصهيوني في أثناء الحروب الأخيرة. أما الدعم الإيراني ل (حزب الله) في لبنان، فهو بلا سقف، وقد أعترف بذلك أمينه العام السيد حسن نصر الله صراحة، عقب انتصار (2006م) في قوله: إن الفضل الأول والأخير يعود إلى دولة إيران الإسلامية، بدءاً من نشوء الحركة وحتى لحظة الانتصار. وهكذا يظهر الفارق جلياً بين المشروع الفارسي والمشاريع العربية، فالمشروع الفارسي يستهدف العقل وتغيير القناعات، بناء على مؤسسات علمية حديثة، تعتمد القراءة والتحليل ووضع الخطط الإستراتيجية. في سبيل خدمة المشروع الإيراني العالمي وانتصاره على المشاريع الأجنبية. ويكفيه نجاحاً أنه تمكن من صناعة أكثر من ذراع له خارج حدوده، يستطيع من خلال هذه الأذرع العسكرية تنفيذ مخططاته، وتحقيق أهدافه وغاياته، دون أن يقحم نفسه في صراعات أو حروب مباشره مع خصومه. بينما المشاريع العربية تقوم على تسميم العقول وتسمين البطون ليس إلا. ويبدو واضحاً أن من أهم أذرع المشروع الإيراني في الوطن العربي: (حزب الله) في لبنان، الذي استطاع عن طريقه إلجام إسرائيل، وتقييدها عن ارتكاب أية حماقة تجاه برنامجه النووي، كما فعلت مع العراق عام 1982م. ولا يختلف اثنان اليوم حول قوة الحزب وكفاءته وامتلاكه ترسانة حربية أرعبت إسرائيل، ومنعتها من الغطرسة تجاه لبنان. ومن أذرع المشروع الإيراني أيضاً (النظام السوري، والحكومة العراقية)، فقد ارتبط بهما استراتيجياً. وما يحدث في سوريا من تدخل مباشر للحرس الثوري الإيراني، إلا دليل قاطع على نفوذ المشروع في سوريا، وعدم استعداده للتفريط في هذا البلد المهم. خاصة وهو يعلم أنه المستهدف من وراء محاولات أمريكا وإسرائيل تقطيع أذرعه، فسقوط سوريا يعني بالضرورة سقوط حزب الله. أما أحدث هذه الأذرع، فهي حركة (أنصار الله/ الحوثيون) في اليمن، التي تمكنت مؤخراً من السيطرة كلياً على كثيرِ من المحافظاتاليمنية، بما فيها عاصمة اليمن التاريخية والسياسية (صنعاء). ولا شك أن انتصار هذه الحركة نتاج تبنيه لها من المهد، ودعمها بسخاء لا ينقص عن دعم حزب الله، إن لم يزده، مادياَ وإعلامياً وعسكرياً وثقافياً. وذلك بهدف تضييق الخناق على دول الخليج العربي، ولف الحبل على رقبة الخصم اللدود للمشروع الإيراني (المملكة العربية السعودية). والذي يعتبرها أخطر من إسرائيل، كما جاء على لسان مدير وكالة مهر الإيرانية الإعلامية قبل أيام، حين سئل، أن دعم حزب مبرر بسبب إسرائيل، فما هو المبرر لدعم حركة الحوثي في اليمن؟، فأجاب أن بعض الدول المجاورة لليمن أخطر وأسوأ من إسرائيل. وفي مسألة اهتمام المشروع الإيرانيباليمن، كشف عضو المكتب السياسي لحركة أنصار الله (علي البخيتي) عن معلومات جديدة، تفيد بأن عدد المقاعد الدراسية المجانية التي تمنحها إيران لليمن كل عام تجاوزت (120) مقعداً دراسياً. وإذا ما قارنا هذا العدد بنسبة ما تقدمه جميع الدول العربية، فإننا سنجد أن ما يقدمه المشروع الإيراني يزيد عن ما تقدمه، باستثناء السعودية التي يقترب من منافستها. أضف إلى نقاط القوة للمشروع الإيراني، أنه يمتلك إمبراطورية إعلامية هائلة تتحدث بأهم لغات العالم، تشرف عليها منظمة إيرانية، مهمتها فقط تأسيس وبناء ودعم وسائل الإعلام المختلفة، الخاصة بالحركات والجماعات والأحزاب المرتبطة بالمشروع الإيراني في كل دول العالم. فعلى سبيل المثال، نجد في اليمن ثلاث قنوات فضائية تابعة لهذه المنظمة (عدن لايف، والمسيرة، والساحات). إلى جانب عدد من الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية التابعة ل (أنصار الله)، و(الحراك الجنوبي) المرتبطين مصيرياً بالمشروع الإيراني. وبناء على هذه المعطيات، يمكننا الجزم أن تخطيط المشروع الإيراني وحكمته وجديته وخبراته وأدواته المتعددة، قد حقق النجاح الباهر والتوسع الكبير، والانتصار الحاسم في مواجهته مع خصومه من العرب والغرب معا. ولذلك يعد من الغباء التساؤل عن أسباب فشل المشاريع العربية، إذ من السخرية والمعيب أن نتحدث زيفاً عن وجود مشروع عربي حقيقي له خططه وبرامجه لمواجهة المشروع الإيراني، أو مواجهة سواه من المشاريع الأجنبية. وبناء عليه، فإن ما يقال عن المشاريع العربية، ما هو إلا حديث تهويمات لوسائل إعلام فاشلة، تشير إلى مشاريع ارتجالية وعشوائية فقط، حيث لا وجود لها في أرض الواقع. وما يتحدثون عنه لا علاقة له بالمؤسسات العلمية والفكرية، ولا رابط له بإرادة الشعب ومواقفه وقناعاته، ولا دور له ثقافياً أو اجتماعياً أو سياسياً، ولا وجود له أو نفوذ داخل الشعوب العربية، ناهيك عن خارجها. إن حجم ما تضخه أمريكا وإسرائيل من أموال وبرامج ومخططات، تشرف عليها مؤسسات علمية وخبراء وعلماء؛ لإفشال المشروع الإيراني، ومحاولة اختراقه من الداخل يفوق كل التصورات. بالإضافة إلى الحصار المدمر للاقتصاد الإيراني وامتداده لعقود من الزمن. ومع ذلك كله، تمكن هذا المشروع من الصمود والمواجهة وتحقيق الانتصارات، فضلاً عن إفشال الخطط والمؤامرات التي تحاك ضده بإحكام. ومن هنا، فإن قراءة واقع المشروع الإيراني بحيادية مطلقة، تثبت حقيقة قوة إيران الهائلة، وامتلاكها أقوى عناصر الفاعلية والتأثير، ليس على العراق فحسب، بل على (العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، وعمان، والبحرين، والكويت). وفي استطاعتها تهديد، أو على الأقل إرباك المشهد السياسي في كل من (تركيا، والسعودية، والإمارات، وقطر)، من خلال توجيه الجماعات والخلايا النائمة التابعة لها هناك، والمتمثلة في القوى الشيعية، المرتبطة بالمرجعيات الدينية الإيرانية أكثر من ارتباطها المرجعيات الدينية في الداخل. إنه من المعيب والمشين أن يلعن العرب حظهم بسبب انتصار المشروع الإيراني، وامتداد نفوذه بقوة في كثير من شعوب الوطن العربي، وكذا توغله مذهبياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وعسكرياً على مستوى المكونات الداخلية للمجتمعات العربية، بهدف تفكيك المجتمعات من الداخل، وإحكام السيطرة عليها من خلال دعم أطراف معينة محسوبة عليه عقائدياً أو سياسياً. إن إنكار نجاح المشروع الإيراني، أو التقليل من قدراته وإمكاناته،لم يعد مجدياً اليوم، فخطورة المشروع لا تكمن بالدرجة الأساس في حجم أدواته وعنفوان طموحاته، وإنما تكمن في قدرة هذه الأدوات والخطط من اختراق نسيج المجتمعات العربية، وتقويض مكوناتها الثقافية والاجتماعية والسياسية والعقدية، تحت شعارات وخطابات دينية وقومية وإسلامية، تزعم انتصارها للمظلومين والمستضعفين من الشعوب العربية والإسلامية، كما يبدو من تبنيها لفكرة المقاومة والممانعة في الوطن العربي.