أي تكتل هو تعبير عن مصالح وتطلعات مجموعة معينه من المواطنين غالباً ما تجمعهم عناصر مشتركة، قد تكون الأفكار أو الرؤية السياسية أو المذهب أو المنطقة أو العرق أو اللون وغيرها من التقسيمات النمطية، وأرقى التكتلات هي التي يكون الجامع المشترك لأعضائها هي الأفكار والرؤى والمشاريع السياسية الغير مرتبطة بأي عصبية وراثية، كالعرق واللون والدين والمذهب والمنطقة، مع ملاحظة أن الأفكار والرؤى السياسية –علمانية، يسارية، لبرالية، قومية- أيضاً تتوارث بتأثير من الأسرة والمحيط كتوارث الدين والمذهب وإن بنسب أقل من تلك العصبيات النمطية. الحزب الاشتراكي اليمني كان أحد أرقى وأنظف التعبيرات السياسية في اليمن على الاطلاق، اذ أنه يعبر عن مصالح كتلة مهمة داخل المجتمع لا عن مصالح فئة أو نخبة محددة، ويمتلك مشروع وطني، نختلف أو نتفق حوله، ويتمكن أي من أعضائه البسطاء من الصعود الى أعلى هرم فيه، إضافة الى أن الحزب لم يكن في يوم من الأيام منصة للاسترزاق بل كان يدفع أعضائه ضريبة على انتمائهم له، وبالأخص ما قبل وصوله الى السلطة في الجنوب وما بعد حرب صيف 94م. مَثَلَ الحزب في مرحلة من المراحل اليسار اليمني الماركسي المتطرف ثم ما لبث أن تطور بالتدريج، وفي نهاية الثمانينات بدأت تتبلور قناعات لدى قيادة الحزب وبالأخص المفكرة منها بأن العمل المسلح –حروب المناطق الوسطى- ليس الطرق الأنسب للنضال وأنه صورة من صور الحرب الأهلية، وطور الحزب رؤاه وكاد أن يؤسس لأول تجربة ديمقراطية تعددية في جنوباليمن قبيل الوحدة اليمنية يتبناها حزب يساري حاكم على مستوى العالم. *** ضُرب الحزب في حرب 94م، لكنه لم يُكسر أو يتلاشى كما تلاشت الأحزاب التي صنعتها السلطة، فالحزب الاشتراكي اليمني هو من صنع السلطة وليس العكس، وهنا تحديداً يكمن الفارق الجوهري بيننه وبين بقية الأحزاب التي تحكم في جمهوريات الوطن العربي والتي صنعتها الأنظمة بعد تَشَكُلها لتمارس من خلالها ديمقراطية زائفة. تخلى الحزب عن الكثير من أدبياته -بالأخص المتعلق منها بالحقوق والحريات السياسية وبالبرنامج الاقتصادي- مدفوعاً بالنضج الفكري والتجربة العملية الداخلية وبالمتغيرات الدولية والإقليمية، وأيضاً بالتطور الفكري للبشرية، وبالتقارب بين المدرسيتين الشيوعية والرأسمالية، حيث أخذت كل مدرسة الكثير من إيجابيات المدرسة الأخرى، وإن حافظت كل واحدة على خصوصيات محددة أبقتها متمايزة عن الأخرى، ووصلت الأحزاب اليسارية الى الحكم في الكثير من الدول الغربية، وأصبحت الفواصل بينها وبين الأحزاب الرأسمالية قليلة جداً لكن تبقت حدود واضحة يمكن معها التمييز بين تلك الأحزاب، وهذا ما حافظ على الأحزاب اليسارية في الكثير من الدول حتى هذه اللحظة. وجد الحزب نفسه ضعيفاً منهكاً مشتتاً بعد حرب صيغ 94م، وخاض تجربة مقاطعة الانتخابات في احدى الدورات الانتخابية، ومن ثم ندم على ذلك، لأنه شعر بأنه يفقد المزيد من الرصيد الشعبي بسبب انكفائه على نفسه وعدم اعترافه بشريعة ديمقراطية نظام صالح المتحالف مع الإخوان المسلمين بأجنحتهم المتعددة "القبلي، الإخواني، العسكري، السلفي، القاعدي". *** غير الحزب من استراتيجية التعامل مع نظام صالح، وقرر فكفكة التحالف الذي ربط بين صالح وبين الإخوان بأجنحتهم المتعددة، وتولدت فكرة اللقاء المشترك بعد أن ظهرت تباينات بين صالح وبين بعض أجنحة الإخوان المسلمين وعلى رأسها الجناح القبلي بعد بروز حميد الأحمر كقائد لهذا الجناح حتى في السنوات الأخيرة من حياة والده، حيث تمكن حميد من فرض رؤيته الإخوانية العقائدية الممزوجة بالحقد القبلي على صالح ونجله وعائلته على حزب التجمع اليمني للإصلاح "اخوان اليمن"، وجر الحزب الى صراع مع صالح، وان كانت الكثير من أجنحة الإخوان لم تنجر الى معركة حميد في تلك الأثناء وبقت متحالفة مع صالح، ومنها الجناح السلفي بزعامة الزنداني والجناح العسكري بزعامة علي محسن وبعض الجناح القبلي الذي كان لا يزال يمثله عبدالله الأحمر قبل وفاته، وظهر ذلك التباين في آخر انتخابات رئاسية، حيث وقف الزنداني وعبدالله الأحمر وعلي محسن مع صالح فيما حزبهم مع المرحوم فيصل بن شملان. تمكن الحزب –عبر تكتل اللقاء المشترك- من احداث شرخ عميق بين أجنحة الحكم، وصنع اطاراً منضماً لمواجهة صالح وبأجندات ورؤى واضحة تبلورت في رؤية المشترك السياسية، وحاول صالح جاهداً تفكيك المشترك لكنه فشل. تعرض الحزب الاشتراكي لهجوم واسع من الكثيرين بسبب تحالفه مع الإخوان المسلمين على اعتبارهم كانوا شركاء في حرب 94م، وكانوا المساهم الأكبر في التجييش الشعبي والديني للحرب، وأفتى علمائهم باستحلال قتل حتى الأطفال والنساء والمستضعفين في الجنوب على اعتبار أن الجيش الجنوبي يتترس بهم، وفتوى عبدالوهاب الديلمي وفتاوى الزنداني لا تزال موجودة على موقع اليوتيوب الى اليوم، وكنت وغيري من أشد المدافعين عن الحزب على اعتباره صنع انجازاً بتفكيك منظومة الحكم التي اعتمد علها صالح لأكثر من ثلاثة عقود ما ساهم في اسقاطه في 2011م إضافة الى ما سببه الحوثيين لنظامه من اضعاف ولشوكته العسكرية من كسر.
*** بعد احداث 2011م تحالف المشترك –بما فيه الحزب الاشتراكي- علناً مع علي محسن الأحمر "المسؤول الأول عن عمليات الاغتيال التي طالت أهم كوادر الحزب الاشتراكي في تسعينات القرن الماضي، وسمعت كبار قادة الحزب ينظرون لمحسن على اعتباره حامي الثورة، وكنت لا أزال وقتها أحسن النية في قيادة الحزب على اعتبار ما يقومون به خطوة تكتيكية تهدف لخطوة استراتيجية ونظرة أبعد بكثير من التي ظهروا بها في 2011م وما بعده كذيل للإخوان المسلمين ومحسن وتحالفاتهم الداخلية وارتباطاتهم الاقليمية، وكان لا يزال لدي أمل –وان كان بدأ في الانحسار- في أن قيادة الحزب الاشتراكي ستجر الأجنحة المعتدلة في حزب الإصلاح الى خيارات الاشتراكي السياسية ويساعدوهم على تحجيم دور الأجنحة التقليدية فيه "القبلية والعسكرية والسلفية والقاعدية".
كنت أضن –وقد خاب ضني في نهاية المطاف- أن تأثير الحزب الاشتراكي سيكون أعمق في حزب الإصلاح، وأن اللقاءات المتكررة بين الحزبين والتي كانت أشبه باليومية على مدى أكثر من عقد من الزمن ستؤدي الى أن يتقارب الحزبان ويتأثر كل منهما بالآخر، الا أني كنت أتوقع أن تأثير الاشتراكي سيكون أعمق في الإصلاح ما سيؤدي الى تغيير في هوية حزب الإصلاح ويجعله أكثر قرباً لمشروع الاشتراكي الوطني من مشروع الإخوان الأممي، بحكم أن هوية الحزب الاشتراكي وثقافة كوادره والفكر الذي يتمتع به قادته سيكون طاغياً على تلك اللقاءات وبالأخص أن ثقافة أغلب من في الصفوف الأولى لحزب الصلاح محدودة ومرتبطة في غالبها بالجانب الديني والتنظيمي، لكن أفقهم ضيق ومشروعهم فئوي مرتبط بأيدلوجيا دينية مذهبية ضيقة مثلهم مثل مشروع الحوثيين الذي ينفذ على أرض الواقع، بينما هوية الحزب الاشتراكي ومشروعة وبالأخص بعد المراجعات الفكرية التي قادها جار الله عمر ونخبة من قادة الحزب في نهاية عقد الثمانينات كان بحجم الوطن ولا يستثني أحداً.
كما أن الحزب الاشتراكي له تاريخ نضالي عريق وقناعات راسخة غير مرتبطة بالأموال والمصالح كما هي ارتباطات أغلب قيادات الإصلاح بحزبهم، حيث كان جزء منهم يتنقل من عند صالح الى عند محسن وهكذا يدورون مع الرابح.
*** لقد أحببت الدكتور ياسين سعيد نعمان على المستوى الشخصي كثيراً –ولا أزال-، وكنت أدافع عنه في كل المحافل مبرراً ما يقوم به من تحالفات وتصرفات، على اعتبار أن الحزب فقد السلطة والثروة والجيش بعد حرب صيف 94م، وان لا مجال امامه الا بالعمل السياسي والمناورات التكتيكية ليحافظ على وجوده وتماسكه وتأثيره على صنع القرار ورسم مستقبل البلد حتى تتغير الظروف ويتم تسوية الملعب السياسي، وأتذكر أني قلت لأحد الأصدقاء: يكفينا أن الحزب الاشتراكي عبر تكتل اللقاء المشترك فكك منظومة حكم صالح القوية، وأضعف من اتكال حزب الإصلاح على السعودية، مما جعل قادة الإخوان أثناء ثورات الربيع العربي –ومنهم حميد الأحمر وتوكل كرمان وغيرهم- أكثر جرأة في التعامل مع الرياض، الى الحد الذي قالوا فيه أن المملكة تدار من غرف الإنعاش وأن قادتها خَرِفُون ومصابون بالزهايمر، وشنوا هجوماً لاذعاً على المملكة وأسرة آل سعود واتهمتم توكل باحتلال مساحات واسعة من الأراضي اليمنية وبأنهم يحيكون المؤامرات على اليمن منذ عقود، وكنت أعتبر أن مؤشر نجاح الحزب في اللقاء المشترك هو بزيادة البون بين السعودية واخوان اليمن على اعتبار الحزب ومشروعة وهويته مناقضة تماماً وقائمة على مواجهة الحكم الرجعي للملكة ووصايته على اليمن بالذات.
خلال تلك الحقبة من عمر تكتل اللقاء المشترك حافظ الحزب الاشتراكي على هويته، وان كان قام ببعض الخطوات التكتيكية التي لم يقتنع بها جمهوره، لكنها لم تغير كثيراً من هوية الحزب وسياساته العامة والقضايا التي يتبناها والشرائح الاجتماعية التي يعبر عنها، وضل موقف الحزب متمايزاً عن الجميع، وكان يلعب دور الوسيط أحياناً بين مُختلف الأطراف، وبالأخص بعد الخلافات التي طرأت بين المكونات التي خرجت في 11 فبراير 2011م مطالبة بإسقاط صالح.
كما أظهر الحزب موقفاً متوازناً من الحرب التي انفجرت بين الحوثيين من جهة والاخوان المسلمين بمختلف أجنحتهم من جهة أخرى في عدة مناطق، والتي زادت وتيرتها أكثر مع انتهاء مؤتمر الحوار الوطني ، حيث وصلت المعارك الى قلب منطقة حاشد ثم مدينة عمران ومن ثم الى صنعاء، وأعتبرت بعض قيادات الحزب –في الغرف المُغلقة وفي لقاءاتنا الخاصة- أن تلك المعركة كانت ضرورية وكان لا بد من كسر بيت الأحمر وعلي محسن الأحمر وكل أجنحة الإخوان التقليدية، واستذكر بعضهم ما قامت به تلك الأجنحة –عندما كانت لا تزال متحالفة مع صالح- ضدي عندما يطلب منه تعريف وتقديم الحزب ومشروعة وما الذي يميزه عن حزب الإصلاح أو حتى عن الزنداني؟.
كيف سيستقطب الحزب أعضاء جدد وكيف سيحافظ على كوادره القديمة الذين رباهم لسنوات ولعقود على عقيدة مواجهة الرأسمالية المتوحشة والأنظمة الرجعية والوصاية السعودية الأمريكية في اليمن بعد تأييد الحزب للعدوان السعودي علناً وسكوته عن قتل الطائرات الأمريكية للكثير من اليمنيين وتواجدها العسكري في اليمن –قبل سيطرة الحوثيين على مقاليد السلطة- بحجة مكافحة القاعدة؟. ما هو الشيء الذي يميز الحزب وقياداته ومواقفه اليوم عن المشايخ والنافذين الذين يتلقون مرتبات من اللجنة الخاصة السعودية؟. وفي الأخير يمكنني أن أتساءل: ماذا تبقى من هوية الحزب الاشتراكي اليمني؟.