أعتقد أن أكثرية النخبة المفروزة مجازاً على (اليسار والقوميين) أو المصنَّفة في خانة (الحداثوية)، مدينة بشدة (للحوثيين) في اكتسابها القدرة على ادعاء الوجود وبصورة لافتة مؤخراً.. لقد عثرت هذه الأكثرية أخيراً على (نَصَع) تزاول عليه غطرستها، دون خشية من تبعات هذه العدوانية غير المبررة عليها، (فالحوثيون) لا يجتزُّون رقاب مخالفيهم بسواطير الفتوى والدراجات النارية وعجلات (الهيلوكس) والأحزمة الناسفة، والرصاص ال(7 ملم)، ولا يلجأون لتصفية خصومهم وظيفياً ومعيشياً وعقائدياً، أو اختطافهم والزجِّ بهم معصوبي العيون في سراديب الأبنية المهجورة.. إزاء هذا (النَّصَع) المأمون العواقب، صار بمقدور جوقة الجبناء تلك أن تتعلم الرماية وتُعلم أبناءها أيضاً، كما وأن تتحول من حالة مجهرية غير منظورة إلى مجسَّمات تتضاخم بالثرثرة ونفخ الأوداج، بعد بيات طويل في مخادع الخوف والتواري.. إن (الحوثيين) ليسوا فوق المساءلة والنقد ولا ريب.. بيد أن معظم ما يُجرى تسويقه تحت هذه اليافطة إزاءهم، يفتقر بطبيعة الحال لمنطق المساءلة والنقد، وينحدر إلى قاع الابتذال والسفسطة الفارغة.. من البديهي على سبيل المثال الإقرار بأنه لا يمكن لدولة متعافية ومقتدرة، أن تنشأ دون احتكار أدوات العنف كحق حصري لمؤسستيها العسكرية والأمنية، ومن ثم تنظيم هذا العنف بما يكفل فرض سيادة النظام والقانون على الجغرافيا والشعب وصون المصالح العامة والخاصة للناس، وفق عقد اجتماعي وسياسي تتوافق عليه مكونات المجتمع بطيفها الواسع على قاعدة المواطنة المتساوية.. هكذا فإنه لا شرعية لأية أدوات عنف خارج مؤسسات الدولة ولا مسوِّغ لها من أي قبيل، إلا أن واقع حال الدولة بصورتها الحالية في اليمن، يجعل من الاتكاء على هذه الفرضية النظرية، لتجريم (سلاح الحوثيين)، ضرباً من ضروب السجالات الهزلية التي تتناول العرض الطارئ بوصفه منتجاً لجملة الاختلالات الجوهرية في بنية الدولة، هرباً من بشاعة الحقيقة أو مواربة وتجميلاً لها! دعونا نُجرِ جرداً سريعاً لمخازن سلاح الجمهوريتين العربية اليمنية واليمن الديمقراطية الشعبية، لنتعرف على طبيعة (الدولة) التي (تحكمنا) اليوم، في أحد أفدح وجوهها المغيبة كارثية: باسم صد الزحف الشيوعي الأحمر، كدِّس (الإخوان) مئات الآلاف من القطع الحربية الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، على امتداد السبعينيات والثمانينيات، وكانت بوابات الكليات والمعاهد العسكرية والأمنية مشرعة لهم، وغرف التوجيه السياسي والمعنوي منابر مبذولة لخطبائهم ومشايخهم.. وإبان الفترة الانتقالية 90- 1994 م، تضاعفت المزايا والامتيازات المبذولة لجماعة (الإخوان) تحت ذات المبرر، لا سيما وأن العدو (الشيوعي) كان قد أصبح في عُقر (صنعاء)، وتوِّجت مرحلة الارتزاق المليشي الحربي هذه، بالسطو على مقدرات الجنوب الحربية برمتها في صيف 1994 م، وتكاثرت (مليشيات الميري الإخوانية) في مفاصل القوات المسلحة والأمن، بمتوالية يصعب حصر منتهاها الرقمي.. ثم باسم مجابهة (الرافضة والصفوية) أتخم (الإخوان) سراديبهم وأقبيتهم بصنوف القطع الحربية، كما أتخموا معسكرات الجيش والأمن بمجندي (المعية) وأكتاف (شيوخهم وشبابهم) بالرتب العسكرية، على امتداد فترة الحروب الست.. ليُجرى تتويج كل (ملاحم الفيد الحربي) التاريخية تلك بتصفية آخر الوحدات النظامية الحرفية، متمثلة في وحدات وألوية الحرس الجمهوري في 2011 م، وتجريدها حتى من اسمها كهوية عسكرية عريقة لتصبح مجرد (قوات احتياط)، وتشريد منتسبيها بذريعة (إعادة الهيكلة والولاء للنظام السابق!!). وبموازاة ذلك جرى تجنيد قرابة مائة وسبعين ألف فرد، غالبيتهم من العاملين كميلشيات بمعية (الإخوان)، كما وابتعاث المئات من أعضاء الجماعة للدراسة في كليات وأكاديميات عسكرية وأمنية دولية، عدا عن تفويج (مجاهدين) إلى (سوريا) و(العراق) و(مصر)، في صفقات شبه علنية وتحت يافطات تمويهية شتى.. وبينما كانت (جماعة الإخوان) قبل 2011 م بمثابة ذراع عسكري ل(دولة الجباية والنفوذ في الشمال)، فقد أصبحت هذه الدولة ذاتها عقب 2011م ذراعاً عسكرياً (للجماعة)، أو أنها على أقل تقدير في طريقها إلى أن تصبح كذلك بمثابرة وعلى نحو فاضح.. لقد ربحت (الجماعة) بطبيعة الحال كل معاركها ضد خصومها بما هي (معارك بالوكالة عن الإمبريالية وضد خصومها)، من يسار اشتراكي وقومي وقوى وطنية، وخرجت منتصرة كأداة بانتصار القطب الأمريكي الإمبريالي ك(مدير تنفيذي).. وإذ يبدو جلياً اليوم أنها تخسر معاركها في مواجهة (أنصار الله) بوصفهم نواة صلبة أخيرة مناوئة لمشروع الهيمنة والاستلاب الراهن، فإن شريحة من النخب (الجبانة) المفروزة على (اليسار مجازاً) تنخرط في الصراع كميليشيات ثقافية مساندة (لجماعة الإخوان) بالقفز على كل الحقائق التاريخية الآنفة، وإهدار السياق التراكمي للصراع، وانطلاقاً من لحظة راهنة افتراضية مجردة ونقية من شائبة إرث تجعل من الحاضر استمراراً للصراع لا ابتداء له. بوسع السَّذج فقط الاعتقاد بأن (الجماعة) قد تخلَّت عن مخالبها الآثمة والسفاحة، لوجه (الثورة المزعومة) أو لوجه أكذوبة (بناء الدولة المدنية)، بحيث يغدو تصوير (أنصار الله) وحصرياً (انحرافاً عن مسار الثورة) و(عائقاً في طريق إنجاز الدولة المنشودة)، استخلاصاً معيارياً ساذجاً هو محصلة لاعتقاد ساذج منذ البدء.. وثمة حقيقة أخرى من المؤكد أن لفت الأنظار إليها يعكِّر بشدة صفو المسترسلين في السذاجة، تماماً كما يثير حفيظة (كهنة كواليس التدليس المشترك) : إن تحالف (الاشتراكي) مع (جماعة الإخوان في صورة الإصلاح)، لم يكن في واقع الأمر تحالفاً بين ندَّين، بل انضواء (المهزوم) في كنف (شروط المنتصر)، وحتى مع ترجيح أنه كان للشهيد (جار الله عمر) رؤية مغايرة تستشرف ثماراً من نوع ما لهذا (الإطار الهجين)، فإن اغتياله بالكيفية الشهيرة الفجة والمتعمدة مكاناً وزماناً، يؤكد أن (شروط المنتصر) هي التي انتظمت ولا تزال تنتظم وجهة وسلوك وغاية (المشترك)، وأن مكوث (الاشتراكي) فيه يشبه مكوث سجين خلف جدران زنزانته إلى أجل غير مسمى، بعد أن انقضت فترة محكوميته.. في المحصلة فإن الخروج من (المشترك) كدخوله كان، ولا يزال خيار السجَّان لا خيار السجين.. تلك هي الحقيقة التي يُجرى تغييبها علي يد (كهنة الكواليس) ولمصلحة (الجماعة).. ولكي تبقى مغيبة سرمداً، يتعيَّن على هؤلاء (الكهنة) تفويت كل فرصة أمام الحزب تتيح له الانتفاع من المتغيرات النوعية في تحرير قراره، وإطلاق مخزون طاقته الحبيسة والمعوَّل عليها شعبياً في إنجاز التوازن المطلوب لصالح حاضر ومستقبل البلد.. إن (الجيش البراني للإخوان) هو ما ينبغي أن يوضع موضع المساءلة وتحت مشارط النقد، فالشرعية ليست مجرد (بزة عسكرية) تستخدمها (الجماعة) كطاقية إخفاء توارب خلفها عرمرم (ميليشياتها) وتطيح بها خصومها الواحد تلو الآخر، بوصفهم خصوماً (لله والوطن والثورة). وبالمثل فإن العمل السياسي العلني التعددي، ليس يافطة ديكورية تضعها (الجماعة) على مقراتها، لتضمن بها بقاء (تنظيمها السري) طي العتمة في منحى كهنوتي باطني مقيت.. تلك المعركة التي يتعين أن تخوضها النُّخب؛ والتي تفضي منطقياً لإمكانية مساءلة «الحوثيين» لاحقاً عن سلاحهم ومطالبتهم بالتحوُّل إلى حزب سياسي؛ ودون خوضها يبقى كل حديث عن هذا «السلاح» مجرد سفسطة ولؤم لا يخفى مغزاه!