في مايو من العام 1994م كانت براميل البارود قد اشتعلت بلا رجعة، مؤذنة بحرب ضروس بين شطرين لم تفلح قبلها أربعة أعوام انتقالية في وصل ما انقطع بين شريكي الوحدة الاندماجية (المؤتمر، والاشتراكي). في الأثناء كانت مقرات الاشتراكي في الشمال فرائس سائغة ل(مجاهدي الجبهة الإسلامية) التابعة لتنظيم الإخوان الذين ظلت سلطتهم على الأجهزة الأمنية قائمة؛ تماماً كما أحقادهم الأيديولوجية تجاه (الرفاق).. يمكن القول إنه وفي اللحظة التي وقعت خلالها معظم مقرات المنظمات القاعدية للحزب تحت سطوة رهاب الثأرية الإخوانية فأزاحت بيارق النجمة الحمراء من سطوح مقراتها ورفعت الرايات البيضاء مكانها، تودداً لأشداق (المجاهدين)، كان بوسع بيرق واحد ونجمة حمراء وحيدة في كل أرجاء الشمال أن ترفرف وتخفق، متكئة على ساعد رفيق من أصلب الرفاق.. وقف (أحمد سيف) وهو كادر جبهوي تحفظ ذرى جبال شرعب ملامحه جيداً؛ في وجه العاصفة لحظة أدار لها قطيع الانتهازيين وحملة المباخر ظهورهم ودفنوا الرؤوس في الرمال طلباً للسلامة.. فقط إرادة رفيق صلب وبندقية كلاشينكوف، كانت قادرة على أن تُؤمِّنَ لتاريخ الحزب الذي أخفقت (صواريخ سكود) في الذود عنه، نهايةً مشرِّفة، في الأقل على مصاف منظمة واحدة في مديرية تنفَّسَت أدخنة القذائف وغبار الحروب أكثر مما تنفست الهواء... لم تجرؤ (ضواري الجبهة الإسلامية) على أن تنهش بيرق النجمة الحمراء الخافق على سطح منظمة شرعب السلام أو أن تلغ سم أشداقها الفاغرة في (زرقة البحر)، وتفسد انسياب (أبجديته)، ف(الهندي الأخير) الواقف على سطح المنظمة، كان جاداً حين وضع حياته في كفة و(شرف البيرق) في الأخرى... كانت (قوات الشرعية) تجتاح المفاوز والثكنات والأنساق العسكرية المنيعة في (كرش والعند وصبر).. ولا يتقدم الأعداء شبراً واحداً على تماس (منظمة شرعب السلام)، أمام جلجلة القسم الذي أقسمه (أحمد سيف) على أسماع الملأ: (لن ينكَّسَ البيرق ما دمت أتنفس).. بدَّدَ الرفيق (أحمد سيف) ونخبة من أزهى الشبيبة في (شرعب)، ريعان أرواحهم بين رماد وألسنة لهب المعارك طيلة سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الفائت.. وبلغوا سدرة المنتهى في الإخلاص لحلم العدالة الاجتماعية ولحزب خذلتهم قياداته كل الخذلان إبان حقبتي التشطير والوحدة على السواء.. فيما كان (ياسين نعمان) في (القاهرة) يقرض أوراق الكتب الصفيقة في سبيل (برواز دكتوراه) بلا روح، كان أولئك الشبيبة من الرفاق يجابهون (صواريخ الكاتيوشا) ويدحرجون أعمارهم رخيصة على منحدرات وذرى الجبال وبطون الأودية المكشرة عن أنياب الحتف والغافية على خسَّةِ الكمائن، في (شرعب والسدة والنادرة وقعطبة والعدين والحقب وماوية..).. من المؤكد أن نخبة مناضلي الكارتون، لا يعرفون شيئاً عن قرامطة وصعاليك الجبال، من طراز (أحمد سيف، محمود عبدالله مهيوب، عبده سعيد قاسم، عبدالله "غمدان"، عبدالعزيز حسن، علي عبدالله حسن، عبدالوهاب إسماعيل..) وسواهم من ذئاب استشهدوا أو لايزالون أحياء يعيشون شظف الحال مناضلين لبلوغ الكفاف.. فقط ذاكرة (الزنداني) وسيارته المحروثة بنصلة (أحمد سيف) عام 1997م، لا تزال نواجذها مطبقة على مرارة ذكرى تجارب (مجاهديه وعصبته) مع هؤلاء الرفاق الذين سقطوا من حسبان الحزب وأضابيره عمداً، فلجأ بعضهم إلى صفوف (المؤتمر) وانزوى البعض الآخر في أكواخ الشظف والحسرة مثخنين بخناجر الخيانة والخذلان.. هنيئاً للرفاق مجلسهم الحزبي إن كان سيستنقذ تاريخ الحزب من أشداق الديناصورات الخونة وفرسان الصوالين الخلفية ومناضلي الكارتون وإخوان اليسار.. والمجد للهندي الأخير (أحمد سيف) ورفاقه الشرفاء.