بعد انتظار طويل وممل قارب السبع سنوات ونيف، أطل علينا قبل أيام السيد المتقاعد/ جون تشيلكوت عبر وسائل الإعلام البريطانية والعالمية، مقدماً تقريره المُسهب حول صوابية مشاركة بريطانيا "العظمى" من عدمها وكشريك مباشر مع الولايات المتحدةالأمريكية في العدوان الظالم على دولة العراق في (ربيع) العام 2003م. أستعرض التقرير بشيء من التفصيل في 12 مجلداً، وما يزيد عن (2.6 مليون كلمة) مقدمات التحضير للحرب، وحيثيات المشاركة، ومشروعية إعلان الحرب خارج سياقات القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الدولي للأمم المتحدة، كما تطرق التقرير إلى استغفال وخداع الشعب البريطاني وممثليه في البرلمان بتقارير استخباراتية غير دقيقة وغير ذات مصداقية، وكيفية تجاهل بلير للرأي العام البريطاني والعالمي التي اعترضت وتظاهرت ضد الحرب وقد بلغت في احتشادها الملايين داخل بريطانيا والعالم بحسب تقديرات الصحف بعض الصحف البريطانية والأوروبية والعالمية الوازنة. ونتذكر معاً بأن هناك دولا كبرى رفضت الحرب على العراق وحذرت من تبعاتها إلا بتفويض بقرار وتفويض من الأممالمتحدة ومن بين الدول المُعترضة على الحرب كانت : روسيا الاتحادية، الصين الشعبية، وجمهورية فرنسا، ألمانيا الاتحادية، الهند، البرازيل،وغيرها من بلدان العالم، بل إن كل البلدان النامية تقريباً رفضت الحرب وأدانتها، باستثناء دولة إسرائيل وعدد من دول مجلس التعاون الخليجي العربي. لا ينكر أي قارئ منصف حصيف أن النظام العراقي بقيادة الرئيس / صدام حسين رحمة الله عليه ارتكب حماقات سياسية مميتة في داخل العراق وخارجه، وهي تعامله العنيف مع المعارضة العراقية الداخلية، علماً بأن عددا من قياداتهم تعاونت مع العدو الإسرائيلي مما برر للنظام قمعه لهم آنذاك، وحربه الضروس ضد دولة إيران الإسلامية الوليدة عام 1979م بقيادة قائد الثورة الإسلامية الإيرانية الإمام / آية الله الخميني رحمة الله عليه التي قامت على أنقاض أعتى نظام قمعي في الإقليم هو نظام الإمبراطور / محمد رضاء بهلوي (شاهنشاه إيران الجبار) حليف أميركا وإسرائيل الإستراتيجي، وغزو العراق لدولة الكويت ومحاولة محوها كلياً من الخارطة السياسية العالمية في سابقة خطيرة في العصر الحديث. كل ذلك كانت أخطاء النظام العراقي كما سردناها بإيجاز، لكن العراق العظيم امتلك مشروعاً سياسياً عربياً قومياً ووطنياً بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في كل المجالات تقريباً، ففي عهد النظام وقيادته منذ ما يزيد عن أربعة عقود، استطاع أن يبني تجربة تنموية، اجتماعية، سياسية وإدارية مشهود لها بالنجاح والتطور والمنافسة العالمية في كل الحقول وأصبحت تجربتها تقترب كثيراً من تجارب الدول الصناعية المتقدمة، مع الإشارة هنا إلى عدم نسيان وذكر أية نواقص أو ثغرات صاحبت التجربة العراقية في البناء والتطوير، وهي في الغالب تصاحب أية تجربة عملية لمن يقدمون مشروعاً عملياً في أي واقع كان. وللتذكير كان النظام العراقي البعثي في العراق قد حدد بوضوح موقفه السياسي العروبي من دولة إسرائيل المحتلة لأرض فلسطين، وأعلن مقاومته لها،ودعمه للشعب الفلسطيني البطل. وعودة إلى الحرب التي شُنت على العراق (في ربيع) عام 2003م من قبل بريطانيا برئاسة بلير كحليف وثيق للولايات المتحدةالأمريكية في زمن رئيسها / جوج دبليو بوش الابن والحكومة اليمينية في مملكة إسبانيا برئيس وزرائها اليميني وبمساعدة من دول الخليج العربي باستثناء سلطنة عُمان، وتحت ذريعة أن العراق قد امتلكت سلاح الدمار الشامل ومحاربة التطرف والإرهاب وكل التداعيات اللاحقة لهذا العدوان الوحشي، جاء التقرير المدوي للسيد / جون تشيلكوت، الذي حدد فيه بشكل واضح خروقات بلير القاتلة : * إن الحرب لم تكن ضرورية ولا مصلحة لبريطانيا فيها. * إن الحوار الدبلوماسي لم يعط له مداه الكافي. * إن التقارير الاستخباراتية البريطانية لم تكن صحيحة. * قُطع وعد صريح للرئيس / بوش بأنه سيذهب معه إلى أي مكان في الحرب. * ضلل أعضاء البرلمان البريطاني بواسطة تأثيره السحري بالخطابات الرنانة الدياغوجية. * أراد بلير بهذه الحرب أن يكون شخصاً استثنائياً في القيادة البريطانية على مر التاريخ. * خلُص التقرير إلى تحميل السير / توني بلير كل النتائج الكارثية التي ترتبت عن الحرب على الشعبين العراقي والبريطاني، علماً بأن بريطانيا خسرت من ميزانيتها مليارات الجنيهات الإسترلينية وفقدت 179 جنديا وضابطا في الحرب. أتذكر إنني زرت جمهورية العراق الشقيق مراتٍ عديدةٍ في زمن الحصار الظالم المفروض من قبل مجلس الأمن الدولي، وعملت أميركا وبريطانيا على تشديد الحصار الجوي والبحري والبري مُنذ العام 1993م والذي استمر إلى عام العدوان في عام 2003م، أي أن الحصار الجائر استمر عشر سنوات ونيف، خسر فيها العراق أكثر من مليون طفل عراقي بسبب نقص العناية الصحية والأدوية والتغذية وبسبب آثار الأسلحة المستخدمة في حرب الخليج الأولى ضد أهلنا بالعراق. كانت زيارتنا المتكررة للعراق لهدفين رئيسيين : الأول : الاستعانة بعلماء العراق في كل المجالات من الجامعات والمؤسسات البحثية العراقية لتغطية النواقص في الجامعات اليمنية ومنها جامعة عدن، والعراق رائدة في التجربة العلمية العظيمة في كل الحقول، كيف لا وقد بدأ في مرحلة إنتاج العلوم والتصنيع الثقيل وخلافه. الثاني : التضامن مع أهلنا بالعراق الشقيق، ونقل مليوني قلم رصاص للمدارس العراقية المُهداة من أطفال اليمن، لأن الحصار الجائر شمل حتى أقلام الرصاص على أبناء العراق، وحجة قرارهم بالخوف من أن علماء العراق سيحولون مادة الرصاص إلى ذخائر لأسلحة الجيش العراقي !!!. وأتذكر حينما قابلنا عددا من علماء العراق العظيم وطلبنا منهم القدوم إلى جامعة عدن والجامعات اليمنية، رحبوا كثيراً بهذه الدعوة ولبوها على الفور دون اشتراطات أنانية، علماً بأن لديهم دعوات مماثلة بشروط أفضل في جامعات عالمية، لأنهم علماء يحملون رسالة للأمة العربية كلّها وليس للعراق فحسب، وأسهم رؤساء الجامعات العراقية آنذاك في الحفاظ على المستوى العلمي لجامعاتهم برغم أوجاع الحصار القاهر المفروض عليهم من الدول الرأسمالية (الحرة) في غرب أوروبا وأمريكا. ولأن العراق العظيم قد بدأ بتنفيذ مشروعه السياسي النهضوي التنموي العلمي في كل الحقول، جاء عدوان بلير وبوش ومن لف لفهم، لأنه سيشكل خطراً حقيقياً على مشروعهم التغريبي الذي وضع مؤسسوه مداميكه الأولى مُنذ ما قبل عصر الاكتشافات والثورة الصناعية، والأمثلة بالتاريخ ولمن يعي ويفهم دروس وعِبر. خلاصة القول أن السير / توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ومن خلال ما استعرضه التقرير الإضافي للسير / جون تشيلكوت بشأن قراره الطائش بضم بريطانيا (العظمى) للعدوان على شعب العراق ودولته والتي خسر العراق ما يربو على المليون عراقي كشهداء ضحايا من نساء وأطفال وشباب وشيوخ، وهجرة وتهجير مالا يقل عن ثلاثة ملايين عراقي، واستزراع حقد أسود ذات نكهة طائفية عرقية بغيضة بين العراقيين بعد الحرب، ومحاولة تمزيق نسيجه الاجتماعي المتآخي، وفتح العراق على مصراعيه للتنظيمات الإرهابية كالقاعدة وداعش الإرهابيتين، وتحطيم الجيش العراقي البطل الذي لازالت رفات شهدائه ترقد على أرض فلسطين المحتلة مُنذ الأربعينيات من القرن العشرين، وتدمير مؤسسات الدولة المدنية العراقية، وإضاعة المكاسب المُحققة للشعب العراقي الذي أنجزها لقرابة قرنٍ من الزمان كميراث أصيل لدولة لها آلاف السنين مُنذ سرجون الأكدي ونبوخذ نصر وهارون الرشيد وكل أعلام التاريخ العروبي الإسلامي وحتى لحظة قدوم (العلوج) في ربيع الغزو عام 2003م. نعم إن تقرير تشيلكوت هو شاهد حي على تبيان المجرمين الذين قرروا العدوان، وشهد شاهد من أهلها، ولهذا حان الاختبار الصعب والحقيقي لمصداقية القانون البريطاني، هل سيحيل المجرم وليس المتهم توني بلير إلى المحكمة الابتدائية في لندن لأنه تسبب في ذبح وقتل (179) جنديا بريطانيا، أو تُحيله إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي ليلقى جزاءه جراء ما اقترفه من جرائم بحق الشعب العراقي المظلوم. ? وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ? أ.د/ عبدالعزيز صالح بن حبتور محافظ مدينة عدن