كان المشهدُ أقرب إلى الحالة المسرحية حين وقف قبل أيام قليلة السير البريطاني جون تشيلكوت بعد ثلاثة عشر عاما من احتلال العراق و إسقاط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في التاسع من أبريل لعام 2003، ليقول بكلمات بسيطة وجُمَلٍ لا تقبل احتمال الكلام في مركز الملكة إليزابيث “إن قرار الحرب البريطاني على بغداد كان خاطئاً”. أكذوبة أسلحة الدمار الشامل جون تشيلكوت كبيرُ موظفي الخدمة المدنية والعضو السابق في لجنة بوتلر ورئيس لجنة التحقيق في القرار الذي اتخذه توني بلير، بالاشتراك مع الولاياتالمتحدة الأميركية التي قادت جيوش التحالف الدولي لاحتلال العراق، اختصر اثني عشر جزءاً ومليونين ونصف المليون كلمة، هي حصيلةُ التقرير الذي تم الاشتغال عليه طيلة سبع سنوات. وكان تم الإعلان في لندن، يوم الخامس عشر من يونيو لعام 2009، مِن قِبل رئيس الوزراء آنذاك غولدن براون عن إطلاق التحقيقات الخاصة بحرب العراق من خلال لجنة بريطانية تتألف من السير جون تشيلكوت والسير لورانس فريدمان، والسير مارتن غيلبرت، والسير رودريك لين، والبارونة أوشا بارشر. تهدف هذه اللجنة من خلال عملية البحث إلى كشف النقاب عن أسرار اتخاذ القرار البريطاني بالمشاركة في احتلال العراق. و جاءت نتيجة ضغط مارسه ذوو الجنود البريطانيين الذين قتلوا خلال العمليات العسكرية التي قام بها التحالف الدولي في المدن العراقية. في العشرين من مارس لعام 2003، انطلقت العمليات العسكرية التي شنتها قوات التحالف الدولي ضد نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين الحاكم حينذاك في بغداد، الحرب التي بدأت على عجَل وانتهت في أقل من عشرين يوماً في التاسع من أبريل لعام 2003، برمزية إسقاط تمثال الرئيس العراقي في ساحة الفردوس بقلب العاصمة بغداد. أسئلة كثيرة يجيب عنها التقرير من خلال التحقيق مع مسؤولين بريطانيين في تلك الفترة، كان أبرزهم رئيس الحكومة الأسبق بلير الذي استضافه تشيلكوت مرتين، وهانز بليكس رئيس لجنة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، وغيرهما من الجنرالات والضباط وأعضاء الدبلوماسية البريطانية الذين تقاطعت إجاباتهم، بحسب التقرير، حول غياب المصداقية في تقارير المخابرات البريطانية سبقت تلك الحرب تحضيرات انطلقت في واشنطنولندن من خلال شخصَي جورج بوش الابن وتوني بلير، حيث تم التنسيق الكامل لتوجيه الرأي العام العالمي من خلال التلويح بثقةِ العالِمِ أنَّ بغداد قادرة خلال 45 دقيقة على استخدام أسلحة دمار شامل، تكون وبالاً على المنطقة بأسرِها، فضلاً عن تصوير النظام العراقي ورئيسه بأنه الخطر الأكبر على السلام في العالم آنذاك. اشترك جنود من كل العالم في جيوش كان قوامها مقاتلون من أميركا و بريطانيا، حيث قُتِلَ -بحسب تشيلكوت- أكثر من 200 جندي بريطاني خلال العمليات العسكرية في المدن العراقية، قام ذووهُم بالاشتغال على مسارات عديدة فيما بعد لكشف زيف الحرب وأسباب الاشتراك بها، تلك النار التي وُلِدت برحيل الأبناء في غزو قامت به بريطانيا لأول مرة، منذ الحرب العالمية الثانية لاحتلال بلد ذي سيادة و شرعية هو العراق. التقرير الذي جاء ضمن 12 جزءاً، عبر أكثر من مليوني كلمة، ضمَّ بين جنباته الكثير من التفاصيل العديدة التي اشتغل عليها فريق شيلكوت لما يقارب سبع سنوات، حيث تضمن التقرير الملابسات والظروف التي قادت لندن إلى قرار الحرب على العراق، والاتصالات التي جرت بين الإدارة الأميركية و البريطانية، وفنَّد المعطيات التي تم الارتكاز عليها وتقارير الاستخبارات في واشنطنولندن. أسئلة كثيرة أجاب عنها التقرير من خلال التحقيق مع مسؤولين بريطانيين في تلك الفترة، كان أبرزهم رئيس الحكومة الأسبق بلير الذي استضافه تشيلكوت مرّتين، وهانز بليكس رئيس لجنة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، وغيرهما من الجنرالات والضباط وأعضاء الدبلوماسية البريطانية الذين تقاطعت إجاباتهم، بحسب التقرير، حول غياب المصداقية في تقارير المخابرات البريطانية، وعدم استخدام وسائل وسبل كانت متاحة من قبل الحكومة لمنع وقوع الحرب، مِن أبرز تلك الوسائل كان الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي حيث تم اتخاذ قرار الحرب بناء على قرار مجلس الأمن و تفويضه عام 1991 عقب غزو الكويت. اليوم تبرر هذه الشخصيات الاستناد إلى القرار السابق لمجلس الأمن، بأن محاولة الدخول في دهاليز اللعبة السياسية الدولية ضمن أروقة الأممالمتحدة قبل الحرب بين عامي 2002 و2003، كان سيمنح النظام العراقي الفرصة لتطوير برنامج الأسلحة المزعوم. بحثاً عن أسباب الحرب، وعبر طرق بحثية معقدة واستماع لشهادات حية مكثفة والتحقيق في وثائق سرية بطرق استقصائية اعتمدت على طرائق البحث الخاص، نظر فريق تشيلكوت في كل التفاصيل. فالارتكازات في التقرير كانت تستند إلى محورين، الأول بريطاني دولي، والثاني عراقي خالص. الجانب البريطاني الدولي، يدين فيه التقرير الاتجاه نحو الحرب دون البحث عن فرص أخرى كانت ممكنة لمنع حدوثها، آخذاً بعين الاعتبار عدم اكتراث المسؤولين إلى عدم جهوزية الجيش البريطاني لخوض الحرب، وانصياع بلير للإدارة الأميركية، عارضاً مراسلات وتسجيلات لرئيس الوزراء البريطاني يؤكد من خلالها للرئيس الأميركي أنه معه في قرار الحرب بكل الأحوال ومهما حدث. التقرير يعيبه عدم قدرته على جر المسؤولين عن الحرب ضد العراق إلى المحاكمة الدولية ومع ذلك فبعد سبع سنوات من العمل والمليارات من الدولارات ومئات الآلاف من الضحايا، لا إدانات واضحة للمجرمين عراقياً، كشف التقرير غياب الرؤية الدولية عموماً والبريطانية على وجه الخصوص لحال المشهد الداخلي في البيت العراقي عقب سقوط النظام الحاكم في بغداد. وناقش القرارات الخاطئة التي تم على إثرِها رسم الخطوات الأولى للخروج من عنق الزجاجة أو ما بات يعرف فيما بعد “المستنقع العراقي”. أبرز تلك القرارات التي ناقشها التقرير كانت الأفكار الخاطئة حول حلّ الجيش العراقي، وحلّ حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم، وحلّ مؤسسات الدولة العراقية، والاشتغال على قدرات عسكرية وهمية يملكها النظام العراقي خاصة بأسلحة الدمار الشامل، في هذه النقطة تحديداً قال الجنرال مايكل لوري في إفادته للجنة التحقيق إن المشتغلين بالشأن العسكري البريطاني عام 2002 كانت مهمتهم تبرير الحرب بدلاً من التحقق من المعلومات الاستخباراتية المتاحة في ذلك الوقت. الحرب المقيدة مستقبلا غياب الرؤية السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية لإدارة البلاد في عراق ما بعد صدام حسين، كان سبباً أساسياً في تدهور كل شيء في بغداد وسائر المدن العراقية، هكذا يؤكد تقرير تشيلكوت بعد اكتشافه للُّعبة الدولية داعياً في ذات الوقت إلى أخذ العِبَر بحيث يكون من الصعب في المستقبل لأيّ حكومة أن تذهب إلى الحرب في أيّ جغرافيا دون المرور بمسارات واضحة من خلال مؤسسات عديدة. رغم أهمية النتائج والنقاط المتنوعة التي أثارها السير جون تشيلكوت إلا أن التقرير يعيبه عدم قدرته على جر المسؤولين عن الحرب ضد العراق إلى المحاكمة رغم انتقاده للمسؤولين عن ذلك القرار حيث يتصدرهم طوني بلير رئيس الحكومة الذي يُطالب البعض بمحاكمته كمجرم حرب. بلير وتشيلكوت رئيس الحكومة الأسبق بلير المنتمي إلى حزب العمال، كان رده سريعاً عقب صدور التقرير. حيث وقف لما يقارب ساعتين أمام الصحافيين بمؤتمر كان الهدف منه الإيضاح والتركيز على بعض النقاط. أهمها إقراره أن المعلومات الاستخباراتية كانت خاطئة، محيلاً ذلك إلى الظروف التي فرضَت ضرورة تصديق تلك التقارير، في إشارة واضحة إلى حالة المزاج العام عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك الأميركية. رغم أن التقرير أكد على غياب الممارسات القانونية والوسائل الديمقراطية، إلا أنه لم يُصدِر حكماً يدين فيه مسؤولين بريطانيين بانتهاك القانون الدولي، واكتفى بانتقاد الطريقة التي اشتغلت بها الحكومة عبّر بلير عن سعادته أن التقرير استبعد نظرية المؤامرة التي تطرح فكرة عقد صفقة بينه وبين إدارة البيت الأبيض في أبريل من عام 2002 في ولاية تكساس لِلزَجّ بلندن ضمن قوات التحالف الدولي للحرب على بغداد. رغم التأثر الذي بدا على لغة وجه بلير خلال حديثه للصحافيين، وإقرارُه بتحمُّل المسؤولية الكاملة عن قرار الحرب، إلا أنه سيكون في مواجهة صعبة مع حزب العمال الذي يُحمِّله ممارسة الكذب والتضليل في حق كوادر الحزب قبل التأثير على الرأي العام للقيام بالحرب. رغم أن التقرير أكد على غياب الممارسات القانونية والوسائل الديمقراطية، إلا أنه لم يُصدِر حكماً يدين فيه مسؤولين بريطانيين بانتهاك القانون الدولي، واكتفى بانتقاد الطريقة التي اشتغلت بها الحكومة لتبرير الحرب من خلال الاستناد إلى معلومات ضعيفة حول إمكانيات العراق العسكرية في ذلك الوقت، والتأكيد على أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لم يكن يشكل تهديداً مباشراً أو قريباً لبريطانيا. بالنسبة إلى العراقيين فإن التقرير يسلط الضوء على ملابسات اتخاذ قرار الحرب والاتجاه بالخطوات الأولى نحو تنفيذ جولاتها على أرض الواقع، وقد يجد فيه البعض إجابات شافية عن اللعبة الدولية التي تمت في أروقة الحكم المتعددة على جغرافيات كثيرة للإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين، لكنهم لن يجدوا أحداً يتحمّل المسؤولية الكاملة عن انفجار الحرب الأهلية عقب الاحتلال، أو سبباً منطقياً لانهيار الدولة الهرمية، أو مبرراً لزوال أحد أهم الحضارات المُشكِّلة للإرث الإنساني. أما خارجياً فسيكون لتقرير تشيلكوت ارتدادات حتمية في واشنطن، حيث تشير التقارير إلى بدء التحرك العملي من قبل ذوي الضحايا من الجنود للمطالبة بفتح تحقيق يؤدي إلى محاسبة جورج بوش على قرار الحرب على العراق. وبالطبع فإن ظهور التقرير في هذا التوقيت بعد سبع سنوات من الاشتغال عليه في وقت ينام المشرق العربي على أرض غير ثابتة، قابلة للانفجار في أيّ لحظة، وفي ظل تفكك الأوطان التي نعيشها وظهور جغرافيات جديدة وكيانات عرقية أو طائفية لم تكن في حسابات الجميع، سيضع تقرير تشيلكوت أيّ إدارة قادمة سواء في واشنطن أو لندن تحت سوط المساءلة إذا ما تم اتخاذ قرار التدخل لإنهاء المآسي التي تدور اليوم.