الكتابة بحد ذاتها ليس لها هدفٌ واضحٌ قبل أن تُفرغ من عقل الكاتب على الورقة ليصبح بعد ذلك فعل الكتابة بوصلةٌ تدل على كل الأهداف وهذا هو دورها الحقيقي وهدفها الأسمى. لكن الكتابة في الوقت الراهن -وكتابات النخبة على وجه التحديد- أصبحت تبحث عن هدف لتكتب فيه أو تكتب في اللا قضية. وصارت ممارستها نوعاً من المشاركة لا أكثر في إضافة كآبة منمقةٍ للمتلقي الذي يصاب بنوبة إحباطٍ بعد قراءة أي صحيفةٍ من صحفنا اليمنية، ولعل مرد ذلك شيئان اثنان. الأول: أن النخبة ارتضت بهامش التعبير وفشلت في انتزاع حقها الطبيعي في التأثير وتحولت كتابة النخب من فعل واع وعميق يدرس جوهر الخلل الاجتماعي والسياسي والإنساني الخ... يعريه ويشرحه نقداً وتحليلاً ويسهم ولو بجزء يسير من الحل،كي لا تكون جزءاً من الخلل القائم . والثاني: أنها استهلكت نفسها مركزةً في كتاباتها على سفاسف الأمور مكتفيةً بالمشاركة في عبثية الصراع السياسي فصارت كتابتها وأفعالها أشبه بردة فعلٍ يومي على ما يجري في ساحة الأحداث أو ما عجزت انعدام الرؤية في التنبؤ به وتوجيه قوى السلطة لتلافيه قبل وقوعه. أو نوعٍ من إسقاط الواجب ومشاركة المجتمع همومه اليومية. وهذا ما سلبها سلطة التأثير وفرّغها من مضمونها ووجودها المقلق لكل مراكز القوى المؤثرة في صناعة المشهد الوطني بكل مكوناته كونها قبلت أن تكون جزءاً من القطيع المتصارع لا حاديه إلى بر الأمان .وهو ما كانت تسعى إليه وتتمناه هذه المراكز وقد نجحت في تحقيقه إلى حدٍ كبيرٍ ليحلو لها بعد ذلك العبث بكل ما تطاله يدها من مقدرات الشعب بعد أن خسرت النخب ثقة الجمهور بها .لتنعكس بعد ذلك معادلة التأثير فاقدة معناها ومصداقيتها بتبدل الأدوار ليصبح الهداف حارس مرمى وحارس المرمى هدافاً. ومع أنني لا أحب الوقوف على الأطلال لأنها في نظري خيانة للحاضر إلا تحت قاعدة الضرورة الفقهية (إلا من أكره) وعليه سأجري مقارنة بسيطة بين مدى تأثير النخبة بكل شرائحها في فترة ما قبل ثورة سبتمبر وصولاً لعام (90) وما نجحت في تحقيقه على أرض الواقع مساهمةٍ في صياغة المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية بعد أن استطاعت بأفعالها وكتابتها التثويرية والتنويرية واختلاطها بالجماهير ومشاركتهم الجوع والخوف والحلم منطلقه من وإلى الواقع بمرارته وطموحاته دافعة بالشعب من دائرة التلقي والخضوع المطلق إلى فضاء المشاركة في انتزاع حقوقه المشروعة. فكانت مصدر قلقٍ لكل حاكمٍ أو سلطةٍ أو نظام ٍ لإيمانها بما تريد وبمقتضيات كل مرحلة تاريخية وبواجبها الأخلاقي أولاً تجاه شعبها، مكرسة لوجودها بكل المتاحات رافضةً كل المغريات والاستقطابات حاملةً على عاتقها صناعة حلم بناء دولةٍ حقيقيةٍ لأمةٍ برع حكامها في القضاء على كل بوادر التغيير والتقدم ومواكبة الأمم. فلم تمنعها شحة المنابر والوسائل من تصدر متن المشهد وتعديل مساراته بعكس ما يجري الآن. فنخبة الحاضر برغم طفرة الوسائل اكتفت بالتنظير السطحي من الغرف المغلقة وانشغلت به مسرفةً في الكتابة الصحفية متصدرةً صخب المشهد الإعلامي إلى أن أصبحت جزءاً من الروتين اليومي منحدرة إلى هامش التأثير والفاعلية في إحداث التغيير بعكس السابق. ولا أعني بمصطلح النخبة هنا الكتاب فقط بل أعني بالنخبة -كي لا يلتبس الأمر- كل مثقفٍ أو أديبٍ أو صحفيٍ أو أكاديمي أو سياسي حرٍ ومتحررٍ من كل الأيديولوجيات والولاءات الحزبية والمذهبية والعرقية الضيقة وغيرها على الأقل لحظة الكتابة أو أداء الواجب الوطني تحت أي مسمى وهذا ما أتمنى أن تكون عليه نخبة اليوم وينشده الجميع لإيماننا أن النخبة ليست غافلةً أو جاهلةً لدورها المهم في الحاضر وأن ما تعيشه حالياً من العبثية والغوغائية وبرجوازية الكتابة والأداء لن تستمر طويلاً كونها تدرك أنها ستكون أمام مساءلة تاريخية عاجلاً أو آجلاً ولعلمها أن التاريخ لن يرحم. وكونها تدرك أيضا أن قوتها الحقيقية ومشروعيتها لن تتحقق إلا حين تكون جزءاً من الشعب وصوتاً لأحلامه ويده التي يبطش بها في وجه كل من يحول بينه وبين حقوقه المشروعة خصوصاً بعد أن تحصنت منه طويلاً وحان الوقت لكي تستعيد ثقته وأن تنطلق من بين صفوفه لإحداث التغيير كلما دعت الحاجة لذلك ولتسد الفجوة التي أشد ما نخشاه أن تتعمق وتتسع كل ما مر بنا الوقت ونخبنا في صوامعهم يكتبون وفي مناصبهم ينهبون