هل هو مزاج سيء ذاك الذي يعترينا حين ننسف كلَّ حيواتنا السابقات وتاريخنا ومجدنا وأنشودة امرئ القيس وهو يعلق: دمُّون إنا معشرٌ يمانون؟! أشعر بالغربة في بلدي، ولست اليمني الوحيد الذي لا يريد أن يرى وطنه ممزقاً تائهاً.. لكني أشفق على كل شيء في هذا الوطن المحسود وأشعر بالغربة في داخلي، وبأن كثيرين لا يهمهم أمر هذه الجغرافيا التي عاشوا فيها وكانت مسقط رأسهم وحنين آباء الكرام ومهجة عين السابقين، وأما اللاحقون فتأسرهم تقليعة الشعر المتثائب ولباس الجينز المرهق وحنين النعومة الباردة. يسافر ابن بلدي إلى أي وطن آخر فيعود متأففاً، يتحدث بلهجة ذلك الوطن الغريب ويصفنا باليمنيين، ولست أعرف له هوىً أو وطناً سوى هذا الذي أنجبه، ويستاء حين لا يعرف المتخلفون في بلاد الترحال عن اسم (اليمن) فيلقي باللائمة علينا!!. يسافر هذا اليمني الشارد الحزين لبلاد أوروبا مثلاً فيحدثنا في مقيل طافح بالقات بالإنجليزية، ولما تذهب به أقدار الله تعالى إلى الخليج يأتينا محملاً بلباس الزي الشعبي. معترياً البداوة ومشدوهاً للطفرة النفطية التي لم تحقق لنفسها وزمانها تاريخاً يوثق أو مجداً يكتب أو علماً ينتفع به. يذهب نصف الشيخ إلى هناك يتوسل مالاً من حنايا الأمراء فيعود إلينا شيخاً كامل الدسم. مفاخراً بعطية الأمير وبسمة الملك الضليل وبأنه كان (ذا شأن) في حضرة سموه (!!). حين يهان المغترب اليمني في بلاد العالم يحمِّل اللعنات فوراً على رئيسه ونظامه وبلده أيضاً، كأن صاحبنا الغريب كان حاملاً لشهادة الدكتوراه في الفيزياء النووية ولم يجد لعقله متسعاً في المكان المتزاحم بعقلية القوى النافذة النفعية (!!) . الوطن ليس له بديل.. هذه بديهة حاضرة في عقل الأمة، لكن أفعال أوغاد المادة تترجم أفعالاً غير التي يحكمونها في ضمائرهم، تجدهم يمدون أيديهم لخيانة مالية من جارتنا الكبرى، أو جواسيس جاهزين للإدلاء بأي معلومات تضر مصلحة الوطن والبلاد، وفي الإعلام المتعدد يحتل المراسلون المحليون نصيباً وافراً من تأدية دور مشبوه لصالح بلد الوسيلة الإعلامية، فتراهم ينفذون ما يقوله لهم المسئول المركزي للوسيلة ويعرضون حياة شعوبهم للفتنة وانتقاص الحقوق والسخرية من مشهد الشارع اليمني التائه من لظى جحيم الحياة المستعر. وفي الشمال أو الجنوب تقوم نُظم عقائدية وحركات ثورية ومسوح أحزاب متهالكة يقف قادتها بكل جرأة مع فصيل غربي أو عربي يرددون وراءه منهجية الحرب ويسيرون وفق مصلحتهم وأهوائهم. يقف العالم بأسره متحداً مع الوحدة اليمنية، فتجد نواباً ووزراء سابقين ومسئولين نافذين يخاطبونك بلغة الانفصال، يريد لنا كل من في الأرض أن نكون موحدين حرصاً على مصالحهم وليس محبة فينا، فلا نقبض على هذه السانحة بيد الحريص المتلهف، بل نرميها بطريقة المستهتر المغرور بغبائه وحماقته (!!) كأننا لاجئون.. مُكرهون على العيش في أزقة اليمن وشوارعها، وبأننا لا نملك خياراً لتبني إمكانية التعدد والقبول بالنهج الآخر والاختلاف دون أن تكون هذه الإمكانية آتية من سفير غربي وقح كسفير أميركا، فنضمر لبعضنا سوء النية، ونمنح أنفسنا رغبة كاملة للعيش تحت ظلال الجاسوسية وبيع مقدرات البلد للغريب الطامع، وفتح سمائنا لطائرات الغازي المكابر دون أن نملك لاحترامنا قدراً أو لمكانتنا مهابة. إنه الفقر.. لكنه لم يكن عيباً.. فأولئك الذاهبون لوطن الاغتراب يستثمرون في بلاد غير بلادهم مصانع وتجارة لا تبور، وفي اليمن يقبلون إلينا بسيارات الترف المستفز ويخاطبوننا بلهجة تلك البلاد، وأكثر شيء يقدمونه لوطنهم (مقيل) ضخم يتسع لألف مخزن، وصور عملاقه (لبدانتهم) المفرطة تحتل واجهة المقايل الشعبية المزدحمة بالقبيلة الصماء. ارحموا بلدي.. أو اتركوه لمن يعشقه.. وأنا أحد العاشقين. وإلى لقاء يتجدد..