على أحد الجسور فوق نهر ملياسكا بوسط سراييفو، تتدلى لافتة قماشية عريضة تقول: ذكرى سربرينتسا، لا تنسوا ولا تسامحوا. على اللوحة الرخامية لمبنى البلدية الذي أعيد افتتاحه بمناسبة مئوية الحرب العالمية الأولى، عبارة تقول: في هذا المكان، وفي أغسطس 1992 أحرق "المجرمون الصرب" المكتبة الوطنية وبها مليونا كتاب ووثيقة، تذكروا وحذروا الآخرين. أينما تتجول في البوسنة والهرسك هذه الأيام يلحقك سيل لا ينقطع من ذاكرة الحرب، إذ تمر هذه الأيام مئوية الحرب العالمية الأولى التي انطلقت شرارتها من سراييفو، و19 عاما على مذبحة سربرينتسا التي قتل متطرفون صرب فيها آلاف المسلمين المدنيين بعدما لجأوا لمقر الأممالمتحدة، و20 عاما على حصار سراييفو، الذي استمر أربع سنوات وكان الأطول في تاريخ الحروب الحديثة. لكن اللافت للنظر أن هذه الذاكرة لم تتراجع بل تتكرس رغم مرور الوقت والجهود الغربية لإعادة تأهيل البوسنة. فالشاب الصربي كافريلو برنسيب، الذي قتل الأرشيدوق فرانز فرناندز وزوجته البارونة صوفيا في 28 يونيو/ حزيران عام 1914، لا يزال في أعين الصرب بطلا قوميا، بينما لا يراه المسلمون والكروات كذلك. سراييفو تحولت إلى واحدة من أفضل المناطق السياحية في أوروبا خلال السنوات الأخيرة. وحين تزور البوسنة والهرسك ستشعر وكأن التاريخ يعيد نفسه مئة عام للوراء، فاتفاقيات دايتون التي أنهت الحرب في عام 1995 أسفرت عن دولة غريبة تتقاسمها المجموعات الثلاث، دولة فيدرالية، تضم كيانين، البوسنة والهرسك، وجمهورية صربسكا. والدولة الأولى تضم عشر كانتونات. وينأى الصرب والكروات بأنفسهم عن الاحتفالات التي يمولها الاتحاد الأوروبي لإحياء ذكرى الحرب، بينما يتحمس لها المسلمون البوشناق الذين أصبحوا موضع عطف العواصم الغربية. والغالب أن الشاب برينسب لم يكن يعي - وهو يطلق الرصاص على وريث عرش النمسا - أنه يطلق الرصاص أيضا على امبراطوريتين هما النمساوية – الهنغارية، والإمبراطورية العثمانية، لتتوزع أراضيهما بين القوى الاستعمارية الجديدة وقتها، وتعيد رسم الدول والخرائط في البلقان والشرق الأوسط. شواهد القتل والخراب تطل الشواهد صارخة على الانقسام الذي وقع على خطوط دينية لمن جمعهم العرق واللغة في يوغسلافيا السابقة. ولا تزيد المسافة بين سراييفو وسربرينتسا على 230 كيلومترا، فبمجرد مغادرة محيط سراييفو ستجد نفسك في أراضي جمهورية صربسكا، التي يرتفع علمها، الذي يشبه العلم الروسي، في معظم مفارق الطرق، وتتغير حروف إرشادات الطرق للغة ذاتها فتصبح أشبه بالحروف الروسية. السبيل العثماني ، يتوسط ساحة بشارشيه أشهر المعالم السياحية في سراييفو. كان الدافع الرئيسي للحرب الأهلية في البوسنة هو تطهيرعرقي للأرض من سكانها على كل الأطراف ليضمن كل واحد مساحة أكبر. لكن على طول الطريق، تقف منازل صرب البوسنة مهجورة والقرى خالية، والمزارع خرابا، وهي صورة تناقض الانتعاش الاقتصادي والعمراني في مناطق المسلمين. قبل الحرب الأهلية كان تعداد السكان في البوسنة والهرسك قرابة الخمسة ملايين نسمة، أما الآن - وبعد سنوات من السلام - فلا يزيد عددهم على ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة. ونتوقف للاستراحة في قرية كونيافيتش بوليا، على بعد نصف ساعة من سربرينتسا، ونتوجه للمقهى الوحيد في تقاطع الطرق، يسألنا النادل ماذا تشربون؟ يرد مرافقي ياسمين، أنا بوسني أنا صائم. سألته عن ضرورة هذا الرد العدائي؟ حكي ياسمين أن والده أتى من هذه القرية وأبناء عمومته من ضحايا سربرينتسا، وأشار إلى كنيسة في مواجهتنا، قائلا "هل تعرف، هذه الكنيسة لم تكن هنا، هذا منزل سيدة مسلمة استولى عليه الصرب وبنوا عليه الكنيسة، وقد توجهت للمحكمة الفيدرالية والمحكمة الأوروبية فحكمت بأحقيتها في استعادة منزلها". سربيرينتسا "جريمة العصر" وفي الحادي عشر من يوليو/ تموز تدفق الآلاف من المسلمين على قرية بوتشيري لإحياء ذكرى المذبحة، التي وقعت في عام 1995 وقتل فيها حوالي 8 آلاف من المسلمين. وصار إحياء الذكرى ودفن رفات الضحايا الذين يتم التعرف عليهم كل عام باختبارات الحامض النووي، طقسا يرتبط بالهوية البوسنية. الحكومة تعلن الحداد، والإذاعة والتلفزيون يقطعان برامجهما العادية لبث الموسيقى الحزينة وإذاعة مراسم الاحتفال من بوتشيري. من هنا أطلق برنسيب النار على ولي عهد النمسا وقد تحول المبنى الذي سقط أمامه متحفا للحرب العالمية الأولى. آلاف من شواهد القبور البيضاء، ونصب تذكاري حفرت عليه أسماء الضحايا، حين تقرأه تعرف أن عائلات بكاملها أبيدت في المجزرة. في الجهة المقابلة للمقبرة، المبنى الذي شهد بداية المجزرة وتحول لمتحف لها. في بوتشيري كان يوجد معسكر الجنود الهولنديين من قوة حفظ السلام، ولا تزال اللافتات والإشارات للمعسكر في مكانها. وكانت المنطقة المحيطة قد أعلنت منطقة آمنة تحت الحماية الدولية. وتدفق الآلاف من سكان سربرينتسا على المنطقة بعد سقوط مدينتهم بأيدي الميليشيات الصربية، واحتشدوا في كل مكان، خاصة مصنع البطاريات الذي يعود للحقبة الشيوعية، لكن المسلحين الصرب لحقوا بهم، وخشي الجنود الهولنديون على حياتهم، فتركوا المسلمين للصرب وفروا. ايرما صابيتش، طبيبة شابة، كان عمرها ثلاث سنوات وقت المذبحة، لم تفقد أيا من أقاربها في سربرنيتسا، لكنها تقول إنها تأتي كل عام إلى هنا لإحياء الذكرى مع أصدقائها "يجب أن تظل سربرينتسا حية، ويتذكرها الجميع، ليعرف المجرمون ماذا فعلوا". كنيسة كونيافيتش على طريق سربرنيتسا، رمز لصراع لم يندمل. جرت هذا العام مراسم دفن لرفات 124 من الضحايا الذين تم التعرف عليهم بعد 19 عاما من مقتلهم. في محيط النصب التذكاري حيث أقام القادمون صلاة الجمعة، ثم صلاة الجنازة، انتشر المئات من رجال الشرطة الفيدرالية وجمهورية صربيسكا، كان على الحافلات القادمة من مناطق البوسنة المختلفة المرور في مناطق الصرب، في حماية بوليس صربيسكا. ازدحم الطريق بسيارات وحافلات العائدين، لكن في نهاية المطاف وصلنا إلى سراييفو، التي تعج بسائحيها ومتاجرها وآثارها، مباهية بأنها "قلب أوروبا" وعاصمتها الثقافية.