لم نعرف له مهنة أو عملا محددا، كل ما نعرفه عنه أنه يجلس طول النهار على المقهى مستغرقا في قراءة كتاب وينصرف في المساء في موعد نومه. لوحظ أنه يرد على تليفونه بصوت خافت، وإن كان ذلك لم يمنع رواد المقهى الجالسين بالقرب منه من تبين بعض الكلمات التي أشعرتهم بالمزيد من الاحترام الممزوج بالخشية. من بين ردوده كما حكوا لي.. أهلا يا معالي الوزير.. كيف حالك.. لم أرك منذ وقت طويل. وفي مكالمة أخرى قال: أهلا يا معالي رئيس الوزراء.. أرجو ألا تكون غضبت مني لأنني رفضت منصب الوزير.. يعلم الله أن صحتي هذه الأيام لن تساعدني على تحمل أعباء المنصب. اسمع.. لماذا لا نتعشى معا كما كان يحدث في الأيام الخوالي. أما المرة التي أشعرت كل الموجودين بالفزع حقا فكانت عندما رد باحترام شديد على إحدى المكالمات: أهلا يا سيادة الرئيس.. لحظة واحدة من فضلك، حولي جماعة كبيرة من البشر. قال ذلك وخرج ليكمل المكالمة خارج المقهى. شعرت برغبة قوية في التحدث معه، لا شك أن هذا النوع من البشر يعرف الكثير، كنت أجلس بالقرب منه فقلت له: ممكن من فضلك أجلس معك قليلا؟ رد بلطف وبابتسامة عريضة: تفضل يا عزيزي.. أنا أعرفك جيدا كما أعرف خالك عبده.. كنا زملاء يوما ما.. تفضل. يا إبراهيم.. شوف البيه يشرب إيه. قلت: أريد أن أحدثك عن مشكلة الأحزاب في مصر.. لماذا لدينا أكثر من تسعين حزبا لم ينجح حزب واحد فيهم في حشد الناس حوله أو على الأقل لفت أنظارهم إليه. قال: نعم.. نعم. إنه السؤال السائد هذه الأيام الذي توجهه كل برامج الفضائيات لضيوفها.. اسمع يا سيدي.. لما كانت قوانين الحياة واحدة وهذا ما أؤمن به.. فميلاد حزب في مجتمع ما يشبه إلى حد التطابق ميلاد طفل، كلاهما كائن حي.. يلاحظ أن الطفل يولد بين أكبر قدر من الألم من الأم الوالدة، تولد الأحزاب في المجتمعات عندما يحدث فيها ما يسبب لها ألما كبيرا. لقد حرصت الطبيعة عند ظهور مخلوق حي جديد، على أن يسبقه أكبر قدر من الألم.. هكذا ميلاد الأحزاب.. لا تتصور أن يولد حزب والدنيا ربيع، والجو بديع.. قفِّل لي على كل المواضيع. لا بد من الأنواء والعواصف والأعاصير، بل وأكثر من ذلك أن يكون المجتمع مهددا في وجوده.. وهنا يحق لنا أن نتكلم ليس عن الحزب ولكن عن الإنسان الذي سيتولى إنشاء هذا الحزب.. انظر إلى أعلى.. سترى السماء.. كما سترى سربا من الطيور تطير على هيئة حرف V مقلوبا وزاويته الحادة إلى الأمام، هذا السرب يقوده طائر واحد، إنه القائد، تُرى كيف عرفت بقية الطيور أنه الوحيد القادر على قيادتها؟ فأعطته ثقتها واطمأنت إلى أنه سيطير بها في أمان إلى أن يصل بها إلى أعشاشها.. تُرى هل خطب فيهم..؟ هل أنشأ جريدة ومحطات تلفزيونية تدعو إلى انتخابه قائدا لها؟.. بالقطع لا. هناك داخل عقول البشر أسرار لم نعرفها بعد.. أنا أتصور أنهم يلمسون فيه للوهلة الأولى رغبته القوية في مساعدتهم فيردون عليه على الفور بالطيران أو السير خلفه.. ما رأيك لا بد أنني صدعتك.. ما تيجي نشرب قهوة سوا.