دمشق شتاء عام 2010 اجلس في إحدى المقاهي في باب توما وأنظر إلى نهر بردى وبقايا ثلوج قد هبطت في الليل ، يلفني إحساس عميق في هذا الجمال من حولي وأشعر أني قد تصالحت مع نفسي .. وليس في كياني إلا ما قاله جبران : زاهدآ فيما سيأتي .. ناسيآ ما قد مضى. ليس لدي إلا حبي لهذا البلد الجميل الذي سكن أعماق روحي، لقد رحلت خلال 44 سنه إلى أقصى الأرض من أعوام المنفى ، واليوم أستوطن هذه الأرض المباركة .. أرض الميعاد - على ترابها سار ألف نبي . هناك قول قديم يقول إن للإنسان وطنان – موطنه الذي ولد فيه والوطن الآخر دمشق. حقيقة وفعلآ الشام موطني. أجلس وحدي في المقهى و لا أشعر أنني جالس وحدي .. أشعر إن قلبي مع كل الناس من حولي إنهم أهلي وأصدقائي .. إن كلمة وحدي ليس لها وجود في حياتي. هناك أشياء كثيرة في هذه الحياة نستطيع أن نملكها ونشارك الآخرين في تلك الملكية الروحية ، لو الإنسان خلق كاملآ لما أحتاج إلى الكمال ..
والكمال لا يأتي إلا بمشاطرة الآخرين في أحزانهم وأفراحهم والشعور أنهم منا و يجب إدخال السعادة إلى قلوبهم. نظرت من النافدة ورأيتها هناك شقراء في ربيع العمر تقف بقامتها الطويلة والنسمات الباردة تداعب خصلات شعرها، تتلفت حولها وتسير إلى نهاية الجسر وتعود مرة أخرى وتتأمل مياه بردى وهي تنساب في تناغم أبدي، أدركت إنها على موعد في اللقاء. شعرت بالسعادة في تأملي قصة حب وطلبت من صاحبة المقهى سماع صوت فيروز حتى تكتمل أمام ناظري هذه اللوحة العاطفية، أنساب صوت فيروز يصور ما أراه أمامي بالنغم: سألتك حبيبي لوين رايحين .. خلينا خلينا وتسبقنا سنين .
نعم سيأتي حبيبها وستقول له ذلك، ثم جاء حبيبها ورأيت فرحتها ولهفتها عليه ولكني لا أسمع ما تقول له ، ولكن قالته فيروز : إن كنا ع طول إلتقينا ع طول .. وليش بنتلفت خايفين . قلت في نفسي إن ذلك يحدث في اللقاء الأول الذي يترك في النفس صدى ذكريات اللقاء الأول التي لا يمحوها الزمن , إنها اللوحة الجميلة التي يحتفظ بها الإنسان في خريف العمر. وتسبح فيروز في عالم الملائكة: أنا كل ما بشوفك .. كأني بشوفك لأول مرة حبيبي .. أنا كل ما تودعنا .. كأنك تودعنا لآخر مرة حبيبي.
رأيت تلك الصبية تهمس لحبيبها الجميل الذي يقف بجانبها فوق الجسر ومدت يدها بكل حنان تساوي خصلة شعره الأصفر : قللي أحكيلي نحنا مين .. وليش بنتلفت خايفين .. ومن مين خايفين .. موعدنا بكره ويتأخر بكره .. قولك مش جاي حبيبي .. عم شوفك بالساعة بتكات الساعة .. جاي من المدى حبيبي .. ويا ديني شتي ياسمين .. عللي تلاقوا ومش عارفين .. ومن مين خايفين. طلبت من صاحبة المقهى فنجان آخر من القهوة وحين أحضرت الفنجان أشرت لها أن تنظر من النافدة إلى الجسر فشاهدتهم فأبتسمت وقالت : عمو على مهلك قدامك عيد. تمنيت أن السماء تمطر ياسمين.
بقلم : محمد أحمد البيضاني كاتب عدني ومؤرخ سياسي - دمشق