بمجرد استقالة الرئيس اليمني "علي عبد الله صالح" وانتخاب نائبه "عبد ربه منصور" خلفًا له، دارت على الفور "رحى" القتال بين الجيش اليمني وعناصر تنظيم القاعدة، التي استغلت الفوضى المتفشية منذ أكثر من عام ونصف لتحكم قبضتها على عدة مدن بالجنوب، ومع أنه لا خلاف على خطورة التهديد الذي تشكله "القاعدة"، ليس فقط على استقرار اليمن، وإنما كذلك على دول الجوار، إلا أن هناك الكثير من علامات الاستفهام حول مدى "صوابية" توقيت تلك المعركة، خاصة أن الجيش اليمني ما زال يعاني من الانشقاقات وتعدد الولاءات، كما أن هناك ملفات أخرى ربما تكون أكثر إلحاحًا، مثل استكمال خطوات المبادرة الخليجية، وتفعيل المصالحة الوطنية، وإعادة هيكلة الجيش، ووضع "خطة إسعافية" عاجلة لعلاج الوضع الاقتصادي المتدهور. وليس سرًّا أن دفع اليمن لخوض تلك المعركة المتعجلة مع "القاعدة" يرتبط أساسًا بضغوط وحسابات أمريكية وإقليمية، وأن الضغوط الخارجية لاستكمال عملية نقل السلطة باليمن ودفع الرئيس "صالح" للاستقالة، ارتبطت أساسًا بتلك المعركة، حيث إن تواصل التظاهرات المطالبة برحيل النظام وحدوث انشقاقات واسعة بالجيش، أدى إلى عجز الرئيس صالح عن الوفاء بالتزاماته تجاه الأمريكيين وحلفائه الإقليميين بشأن المعركة مع "القاعدة"، بل إن الرئيس السابق كان يستغل تلك الورقة بهدف إجبار الغرب والقوى الإقليمية على الاستمرار في دعم نظامه، ولذا كان يدير معركة "تحت السيطرة" مع مسلحي "القاعدة"، فهو لم يسع للقضاء عليهم نهائيًّا، حتى لا يفقد دوره "الوظيفي" لدى داعميه، كما أنه لم يكن يسمح لمسلحي القاعدة بتجاوز "قواعد التحرك" المسموح لهم بها، وعندما يحدث تجاوز، كان يتم قمعه بعنف.
تغير القواعد
وبسقوط "صالح" يبدو أن قواعد اللعبة قد تغيرت، وهو ما يعترف به الأمريكيون أنفسهم وتؤكده الوقائع على الأرض، فالطائرات الأمريكية بدون طيار، باتت تتحرك بحرية تامة في الأجواء اليمنية، معتمدة على إسناد استخباراتي قوي على الأرض، يمدها بمعلومات دقيقة، تمكنها من توجيه ضربات جوية مركزة تستهدف قيادات ومسلحي "القاعدة"، وقد تكررت تلك الضربات في الأسابيع الأخيرة، وتمكنت من خلالها الولاياتالمتحدة من اصطياد عدة "أهداف ثمينة"، كذلك فإن القوات اليمنية التي تخوض معارك برية مع مسلحي القاعدة في مدن محافظة "أبين"، مثل "جعار" و"زنجبار"، تحظى بإسناد ودعم مباشر من قوات البحرية الأمريكية، الراسية قبالة السواحل اليمنية، كما أن هناك مدربين وخبراء عسكريين أمريكيين يتحركون بصحبة تلك القوات، فضلا عما تقدمه الولاياتالمتحدة من تسليح وذخائر لتلك القوات.
لكن كل ذلك لا ينفي أن "دماء يمنية" غزيرة هي التي تشكل وقود تلك المعارك، وأن الدمار الذي تخلفه يصيب بشكل أساسي منازل ومنشآت يمنية، وأن الهجمات الانتقامية التي يشنها، وسوف يشنها، مسلحو القاعدة تستهدف "يمنيين"، بغض النظر عن كونهم عسكريين أو مدنيين، ولعل التفجير المرعب الذي استهدف قبل أيام تجمعًا لقوات الجيش اليمني في صنعاء، وراح ضحيته أكثر من مائة قتيل وعدة مئات من الجرحى، يشكل دليلًا واضحة على شراسة المعركة، وأن المعارك، التي يشنها الجيش اليمني لطرد عناصر القاعدة من المدن التي يسيطرون عليها، تعد، رغم دمويتها، مجرد "بداية سهلة"، لحرب استنزاف طويلة، يرجح أن يتحول إليها مقاتلو القاعدة بمجرد فقدانهم تلك المدن، وستشكل "السيارات المفخخة" و"الهجمات الانتحارية" العناوين الأبرز لتلك الحرب.
خيارات متعددة
ولا يعني ما سبق أنه كان مطلوبًا من النظام اليمني أن "يهادن" القاعدة أو أن يتقاسم معها "السيادة" على بعض المدن، ويسمح لها بالتحول إلى "دولة داخل الدولة"، إلا أنه في نفس الوقت ربما لم يكن من "الحكمة" تبني الخيار الأمريكي بشكل كامل، فعناصر تنظيم القاعدة في اليمن لا يمكن وضعهم في "سلة واحدة"، فهناك من يتبنون بالفعل أفكارًا متشددة، لكن هذا التشدد يشكل جزءًا من النسيج الاجتماعي شديد المحافظة في اليمن، وهؤلاء يمكن فتح حوار معهم، بوساطة زعماء القبائل، بهدف إقناعهم بنبذ العنف، والدخول في "مراجعات فقهية وفكرية" على غرار ما فعلته بعض الجماعات الإسلامية في مصر واليمن، كما أن هناك نسخة سعودية لتلك المراجعات ربما تكون هي الأنسب للوضع اليمني، بحكم تشابه ظروف وملابسات الانحراف نحو التشدد في البلدين، وذلك من خلال الدورات والنقاشات التي تجريها "لجان المناصحة" مع معتنقي فكر التشدد والغلو، بهدف إصلاح أفكارهم وإعادة دمجهم مرة أخرى في المجتمع، بدلا من التنكيل والزج بهم في السجون.
وبالإضافة لهؤلاء، هناك فريق آخر يضم عشرات المسلحين الأجانب، الذين وجدوا في اليمن، ببيئته القبلية المحافظة وحكومته الهشة، "ملاذًا آمنًا"، يمكن التواري داخله، واتخاذه قاعدة للتحرك وتنفيذ عمليات في دول مجاورة، وهؤلاء يمكن أن يتم تخيير من يوفرون لهم الملاذ والحماية بين تسليمهم إلى أجهزة الأمن كي تقوم بترحيلهم إلى بلادهم الأصلية، أو منحهم مهلة كي يغادروا البلاد نهائيًا، لأنه ليس مطلوبًا من اليمن، في ضوء موارده المحدودة وأوضاعه بالغة السوء، أن يخوض معركة طاحنة بالإنابة عن الولاياتالمتحدة، بكل أسلحتها وجيوشها.
معركة مفتوحة
كما أنه لا مصلحة لليمنيين في أن تتحول بلادهم إلى "أفغانستان جديدة"، وأن ينتقل إليها مقاتلو القاعدة عبر العالم، كي يخوضوا معركتهم الأخيرة مع الولاياتالمتحدة، على حساب دماء واستقرار الشعب اليمني، خاصة أن هناك دولًا أكثر قدرة، ولديها جيوش أشد عتادًا رفضت في السابق لعب هذا الدور، حيث كشفت تسريبات "وثائق ويكيليكس" أن المشير حسين طنطاوي وزير الدفاع المصري وقف حائطًا منيعًا في وجه ضغوط أمريكية شرسة للزج بالجيش المصري فيما يسمى ب"الحرب على الإرهاب"، واعتبر طنطاوي تلك الحرب لا تشكل أولوية أو مصلحة مصرية، طالما أن أجهزة الأمن قادرة على منع تسلل عناصر القاعدة إلى الأراضي المصرية.
وتكمن خطورة المعركة المفتوحة ما بين "الجيش اليمني" و"مقاتلي القاعدة" في أنها تزيد وطأة الضغوط على الاقتصاد اليمني شبه المنهار، فلا يمكن الحديث عن جذب استثمارات أجنبية في وقت تضرب فيه "المفخخات" قلب العاصمة صنعاء، كما أن التورط في مستنقع "القاعدة"، سيعوِّق قدرة النظام الحاكم على معالجة ملفات أخرى، ربما تكون أكثر إلحاحًا، فتمرد الحوثيين في الشمال قابل للاشتعال في أي لحظة، ما لم يتم التوصل إلى مصالحة وطنية شاملة، خاصة أن اليمن لم يعرف على طول تاريخه تلك المعارك الطائفية، وكان التعايش ما بين "السنة" و"الزيديين" دومًا نموذجيًا.
حدود القتال
كذلك فإن مطالب "الحراك الجنوبي" بالانفصال ما زالت قائمة، وعادت نبرتها للارتفاع مرة أخرى عقب تنحي "صالح"، ويحتاج النظام الجديد لوضع قواعد وطنية جامعة، تضمن إنهاء تهميش الجنوبيين ووضع خطط تنمية متوازنة ومع تقاسم عادل للثروة والسلطة. يضاف لذلك ملف إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية، وتطهيرها من القيادات المحسوبة على الرئيس السابق، وإعادة بنائها على أساس الكفاءة والمهنية.
وإذا كان من الممكن تفهم إصرار النظام على استعادة قبضته على المدن الخاضعة لسيطرة مقاتلي القاعدة، باعتبار أن ذلك يمثل أمرًا حيويًا للتدليل على هيبة الدولة وقدرتها على بسط نفوذها على كامل أراضيها، إلا أنه سيكون من "التهور" الاستمرار في تلك المعركة إلى ما لا نهاية، فعقب التحرير الوشيك لتلك المدن، يجب فتح حوار مع العناصر الأكثر اعتدالًا داخل التنظيم، ومطالبة المقاتلين الأجانب بمغادرة البلاد، كما أنه يجب مطالبة الولاياتالمتحدة بوقف هجمات "الطائرات بدون طيار"، حتى لا تتحول البلاد إلى "منطقة قبائل" جديدة، على غرار الوضع في باكستان، حيث تشن هذه الطائرات هجماتها على تلك المنطقة المتاخمة للحدود الباكستانية مع أفغانستان منذ عدة سنوات، ثم يدفع الجيش والمواطنون الباكستانيون فاتورة ذلك مرتين، الأولى من خلال المدنيين الأبرياء الذين يسقطون بفعل تلك الهجمات، والثانية من خلال التفجيرات التي تشنها "القاعدة"، والجماعات الباكستانية المتعاطفة معها، ردًا على تلك الهجمات.