كثيرة التقارير والدراسات والمقالات التي كانت تتسابق في تأكيد هشاشة النظام السوري وأنه لا يحتمل أي انشقاق أو ثورة بحكم تركيبته المعقدة وولاءاته الشخصية والعائلية والمذهبية، ما جعل الهرم مقلوباً والخوف هو السائد، فإن حدث فيه أي تشظٍ انهار النظام بالكامل، ومن هنا كان الاستغراب أن ثورات الربيع العربي كانت شرارتها من تونس وليس من دمشق. منذ ثلاث سنوات انتفض السوري متفائلاً بأحوال تونس ومصر وليبيا إلا أن حصاده، حتى الآن، كان القتل والتشريد والملاجئ وحج الجماعات الجهادية إلى أرضه، بينما بقي النظام محصناً من الانشقاقات ولم تنهر وحداته العسكرية ونظامه الإداري حتى بعد قصف التحالف الدولي والتهديدات الأممية، ومع أنه فقد السيطرة على معظم المناطق التي أصبحت دويلات بذاتها إلا أنه يفاوض من منطق السلطة، فأصبحت المعارضة تخفف من اشتراطاتها وتبحث عن حلول وسط مدارها الاندماج مع النظام القائم.
في المقابل، اشتهرت تونس زين العابدين بن علي بقبضتها الأمنية الاستبدادية، وتقاريرها الاستخباراتية وقدرتها على ترصد النية قبل الفعل، كان الرهان أنها مستعصية ولا يمكن اختراقها، ففاجأت العالم أنها أساس الربيع العربي الذي لم يستطع زين العابدين الصمود أمامه شهراً واحداً فقط.
في ليبيا كان القذافي مجنوناً، خطره على الخارج أكثر من الداخل، ونشاطاته الإرهابية تثير الرعب، فجاءت الثورة عليه فعلاً عسكرياً دولياً لم يكن للثوار فيه أي دور سوى إضفاء الشرعية على الحملة من خلال المساندة الإعلامية، فكان النظام الوحيد الذي أسقط خارجياً وليس عبر الثورة، لأن نزعة القذافي القمعية متعطشة للدماء لا ترهبها مظاهرات مهما بلغ حجمها ولا يجرؤ الشعب، الذي كان معظمه من مواليد عهد حكمه الطويل، على مقاومة مآلها الفناء.
في السودان كل نماذج الاحتشاد السياسي وأنواع المقاومة وصورة الفقر والبطالة والجفاف ومع ذلك لم يسمع بالربيع العربي، ولم يتأثر حتى بدخانه وروائحه.
في إطار النتائج حققت الثورة في مصر حلمها لكنها لم تكن تمتلك رؤية كأنها حال انتقام وغيظ أكثر منها سعياً لطريق ممهد عكس الحال التونسية التي اخترقت المشهد على كل المستويات، ربما لأنها ذات جذر غربي أكثر منه عربياً.
في ليبيا كانت الفرحة بطوابير المنتخبين صورة وهمية لعالم مجهول سرعان ما تفتت إلى شظايا قبلية وجماعات إسلامية أحالت البهجة إلى مسلسل من الدماء يقترب من الحال السورية وقد يفوقها عمراً.
رفضت مصر نتائج ثورتها الأولى، لأنها لم تكن الحلم الذي ينشد، وعادت تونس إلى مرحلتها البورقيبية، وبقي علي عبدالله صالح يعبث في اليمن من دون أن يتحمل أية مسؤولية، ورسخت الجزائر صورتها الأولى وهي التي كانت دار «العشرية السوداء».
المحصلة أن كل الدراسات والتقارير عن المنطق لم يصدق منها شيء سواء في البداية أم في مراحل التغيير، كأنها تخرصات منجمين وتخرصات غربيين ومقلديهم من العرب، ولو راجع المرء محتوى التحليل السياسي لكل دولة عربية قبل الثورات لوجد أن الشيء الصادق الوحيد فيها هو أسماء الدول فقط.
إما أن العالم العربي لا يخضع للمنطق الغربي في التحولات ولا يستجيب لاستقراءاته، وإما أن الباحثين يحللونه كما يشتهون ويأملون وليس عبر فهم تركيبته الجينية، فلا يصدق فيه أي قول وإن تسلح بآلة عسكرية مدمرة!