إن علم استشراف المستقبل يعد اليوم من أهم العلوم الإستراتيجية، والاهتمام بهذا العلم يزداد يوماً بعد يوم، ويتميز عالم اليوم بالكثير من التطورات والتغيرات والمستجدات والتحولات على كافة الصعد، في زمن متدفق هادر وتاريخ يجري تصنيعه واخراجه بإرادة الأقوياء والمتمكنين، في هذا البحر العاصف تجد الأمم الراغبة بالبقاء على الساحة الحضارية بأن عليها أن تطبق على مجاذيفها بإصرار وعزيمة حتى لا تذهب بها رياح المتغيرات الكاسحة، وليس ثمة مجاذيف أقوى من مجاذيف الحقائق المنسلخة من قلب الواقع، والمحررة من البهرجة وأهواء الغرور، وتتطلب الأحداث الجسام قدراً مساوياً لها من الرؤى والعقلانية والعزيمة والنوايا المخلصة. ويعد الوعي بالمستقبل واستشراف آفاقه وفهم تحدياته وفرصه من المقومات الرئيسة في صناعة النجاح ولا يمكن أن يتحقق النجاح إذا لم نمتلك رؤية واضحة لمعالم المستقبل، ومن المهم للغاية إدراك أن الحاضر الآن سيصبح بعد فترة من الزمن ماضياً، وأن المستقبل سيكون هو الحاضر، وإدراك هذه الحقيقة الواضحة يجب أن يكون المنطلق للتعامل مع الحاضر برؤية ثاقبة.
ان كل ما جرى ويجري اليوم على الساحة الجنوبية يتمثل بغياب الوعي، فالمشكلة لا تكمن في السياسة والسياسيين فحسب، حتى وإن إستبدلنا هذا بذاك، أو ذاك بهذا، فالوعي هو الغائب وقد عملوا على تغييبه المتمترسون وراء العقليات العقائدية المختلفة، فيما الوطن غائب عن الجميع، الكارثة اليوم ليست سياسية، ولا اجتماعية بل هي كارثة تتعلق بالوعي وتكوين الوعي، حتى بات الناس اليوم يجدون في التشظي والانقسام حلاً لمشكلاتهم، ولو رجعنا لقراءة التجارب في عقودنا الماضية لأدركنا بأننا نكرر نفس الأخطاء من جديد، وبنفس الآليات وكأننا مرغمون على الولوج في نفس الأنفاق غير النافذة، لنضيع الأوقات والجهود، ولو تأملنا حالنا، لأدركنا بأننا لا نرى سوى ما تحت أقدامنا، فلا نحن بالذين التفتوا للماضي للدراسة، ولا بالذين تطلعوا للمستقبل للاستشراف، ولذا بقينا في مربعاتنا( نتطاحن بلا طحين ونتعارك بلا حراك)، والقوافل قد سارت من حولنا نحو المجد.
اننا اليوم أمام حالة مستعصية لا تخضع لمنطق البناء, ولا القدرة على استشراف المستقبل, حالة الانقسام المفروضة اليوم على كل تفاصيل الحياة الجنوبية بكل مكوناتها ومركباتها، حالة أصابت فينا الوعي نفسه وتشتته في ألف منزلق ومأزق, انقسام جاء معاندا لصيرورة التاريخ, معاكساً لواقع شعب يخوض معركة التحرر في مواجهة احتلال يحمل التناقض بكل أشكاله، ومردود ذلك الانقسام بآثاره ونتائجه سيلمس مستقبلنا ويساهم بشكل محوري في تشكيله, فالماضي تظهر آثاره في الحاضر, والحاضر تظهر نتائجه في المستقل, فماضينا أفرز حالة الانقسام, وحاضرنا نعيشه بكل تفاصيله رؤى غائمة ومضللة تبشر بمستقبل مظلم أن نحن لم نستعد شيئا من الوعي والقراءة الأمينة والمخلصة لماضينا وحاضرنا, وننبش فيها عن تلك الجذور المفروضة علينا, حتى لا تثمر مستقبلا لا نملك فيه سوى الوجود الذي يكرس مسلسلا متواصلا من الدونية والانحطاط والتراجع وتحقيق أهداف الآخر المتمثل بالاحتلال.
إن إزالة آثار الانقسام يعني بداية صحيحة لبناء وعي قادر على النقد وتقييم الأسباب والبحث في الماضي عن المسببات, وقراءة الحاضر بعقول تدرك أن الأمر لا يعد ترفا بل هو أمراً محتوم ومفروض لا سبيل للهروب منه أو استبداله بشعارات براقة وأحلام قصوى مستحيلة, فالمطلوب هو الدخول في مجرى التاريخ والماضي لاستخلاص العبر والكشف عن المسببات والخلل والإرهاصات التي تكاتفت لفرض واقع لا يخضع لتوجهاتنا ولا لطبيعتنا التي شكلت منطلقا للوقوف ندا أمام احتلال ممنهج ومتواصل, هذه الطبيعة تقف مشدوهة أمام واقع اليوم, فالمفروض أن يكون واقعنا متناقضا بكل تفاصيله وممارساته مع الاحتلال, ويركز وبشكل أساس على إدارة الصراع في كل الاتجاهات, لا أن ينشغل بصراعات داخلية تمس الذات الجنوبية وتصيبها بالوهن.
إن تكوين الوعي بالمستقبل يستلزم بالضرورة أن نفتح أعيننا وقلوبنا على كل ما يجري من حولنا من تغيرات على كافة المستويات، وتنبع أهمية الوعي بالمستقبل من أهمية فهم العصر الذي نعايشه؛ فلا يمكن فهم العصر ولغته من دون فهم المستقبل وآفاقه؛ ولكي نفهم العصر علينا أن نفهم المستقبل الذي ينتظرنا حتى لا نفاجأ بأحداث لا نتوقعها.
إن من لا يملك رؤية واضحة للمستقبل لا يعرف بصورة صحيحة كيف يتعامل مع الحاضر؛ ففهم الحاضر يتطلب فهم المستقبل، وبناء الحاضر يجب أن يرتكز على استيعاب آفاق المستقبل. ولكي نُكَوِّن رؤية عن المستقبل علينا أن ندرس الماضي، ونستفيد من دروسه وعبره، كما ينبغي فهم الحاضر بكل جوانبه وأبعاده ومكوناته، وإذا استطعنا استيعاب دروس الماضي بما فيها من نقاط قوة أو ضعف، واستثمارها من أجل العمل في الحاضر فإن هذا سيكون خير معين لنا لنفهم آفاق المستقبل وأبعاده ومعالمه.