د. محمد المحفلي في مقال سابق لما تعرضت له صنعاء القديمة من تدمير لبعض دورها الأثرية، تناول الموازنة بين صنعاء بوصفها كيانا ثقافيا متجددا عبر العصور، وثقافة إقصائية ولدت في صنعاء، تنظر إلى المناطق الأخرى من منظور يقف في العلو مقيما الآخرين من هذا المكان الافتراضي المتعالي على بقية مناطق اليمن. لقد جاء هذا الحادث ليؤكد من جديد هذه الثقافة التي تسيء لصنعاء في المقام الأول قبل أن تسيء للآخرين، بل ولتؤكد مدى ترسخها في وعي صانع السياسة بصورتها السلبية، ومن ثم كيفية تفاعلها في وعي مستهلكي هذا الخطاب السياسي. وقبل أي تحقيق في الحادث الذي لم يحسم أمره حتى اللحظة، لقد تبرأت قوات التحالف منه، ولم يظهر أي أثر للفاعل الحقيقي لهذه الجريمة، وما إذا كانت بفعل عمل عسكري من قبل قوات التحالف، أو عمل عسكري من الداخل، أو أن تلك الدور تهدمت بذاتها لأنه لم يثبت حتى الآن حصول انفجار، ولا حتى أثر للصاروخ الذي قالوا إنه لم ينفجر، وهو ما جعل الكثير من الجهات تطالب بالتحقيق في الأمر، ولكن لا يبدو أن تحقيقا سيجري، ذلك أن الرغبة في استغلال الأمر سياسيا وإعلاميا أهم من معرفة الجاني أو كشف السبب. إن مدى استغلال هذا الحادث سياسيا جرى على وتيرة غير مسبوقة، فقد امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي، بنشر صور بعض النشطاء من الشباب الذين زعموا أنهم عملوا منشورات تفيد بوجود مضادات أرضية على أسطح المنازل، وطالب بعضهم بسحلهم في الشوارع، حتى قبل أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن الفاعل الحقيقي أو السبب الأساسي للحادث. لقد استيقظت ثقافة صنعاء بكل جبروتها وفي مختلف وسائلها الإعلامية لتشنع على كل المخالفين للحوثي وصالح بوصفهم المعتدي الوحيد والفاعل الأساسي لهذه الجريمة، يكفي أن تكون مختلفا معهم لتكون متهما رئيسا في تدمير صنعاء التاريخ. بيد أنهم هم أنفسهم الذين كانوا أيام حكمهم سببا في تهديد اليونيسكو بشطب صنعاء من قائمة التراث العالمي بسبب عدم الحفاظ على طابعها المعماري وعمل استحداثات لا تتناسب مع طبيعتها التراثية، كانت أغلب تلك الاستحداثات الخرسانية تعود لرجال الدولة الفاسدين القادمين في الأغلب من خارج أسوار صنعاء القديمة. هؤلاء الذين يوظفون هذا الحادث، هم أنفسهم من أهمل مدينة زبيد التاريخية ومازالت حتى اللحظة مهددة بشطبها من قائمة التراث العالمي، بل إن الدولة حتى اللحظة لم تعمل على تدارك هذا التراث العالمي المعرض للاندثار. وهم من قاموا خلال سنين متلاحقة على تهريب الآثار اليمنية والاتجار بها، حتى أن أغلب الآثار اليمنية موجودة خارج اليمن وفي مختلف المتاحف الأوربية، ومازالت بعض العصابات حتى اليوم تعمل على تهريب آثار اليمن ومخطوطاته ومكتسباته الحضارية، في تماه مع تجارة السلاح والمخدرات وتهريب البشر، وبحماية من بعض كبار رجال النظام السابق. هؤلاء ذاتهم هم من قام بالقصف المتعمد لصهاريج عدن، قصف مع سبق الإصرار والترصد، وتدمير أغلب المناطق الأثرية في عدن والتي مازالت تدمر حتى هذه اللحظة. وهم أنفسهم من يفجر بيوت خصومهم والتي هي في الأغلب بيوت أثرية وتستحق الحماية بوصفها تراثا وطنيا أصيلا، لكنها للأسف لا تقع ضمن أسوار صنعاء فقد ولدت بعيدة، في شبوة أو الضالع او في الجوف أو في مأرب. هم ذاتهم من كان السبب في تدمير قلعة القاهرة في تعز، فهم الذين جعلوها ثكنة عسكرية، وجعلها مقرا لإطلاق القذائف على الأحياء الآمنة في تعز، وبالتالي جعلوا منها هدفا عسكريا، أدى إلى تدميرها تماما. إن الأمر لم ولن يستقيم حتى تؤمن هذه الثقافة أن حجرا في صنعاء هي تراث عالمي يعترف به العالم ويطالب بحمايته، لا لأنه في صنعاء بل لأنه قادر على الحفاظ على عبق التاريخ، مثله تماما كما تحافظ تلك الحجر في شبام حضرموت، وعدنوتعزوزبيد على تاريخها الممتد عبر العصور.