صدمنا وفاجأنا ما طالعتنا به صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر يوم أمس على لسان رئيس تحريرها السابق، الكاتب والإعلامي المخضرم، عبد الرحمن الراشد. ما ذهب اليه الراشد في مقاله الموسوم ب " لا لانفصال جنوباليمن" والذي استنكر فيه مطالبة الجنوبيين بالإنفصال، مصرحاً في الوقت ذاته بأنه ضد هذه الفكرة أساساً، كما يخبرنا بذلك عنوان المقال نفسه، أمر يدعو للحيرة ويبعث على الإستغراب. إن ما جاء على لسان شخصية معتبرة خليجياً، وهامة إعلامية بارزة لها ثقلها وحجمها في الوسط الصحفي والإعلامي الخليجي والعربي، بل والعالمي حتى، لشيء يدعنا أمام حالة من الدهشة المصحوبة بالصدمة والأسى لهذا الإنحسار في الرؤية والرأي غير المتوقع. شخصياً، استغرب كيف يصدر هذا التحليل والطرح الأرعن من شخصية اعلامية مخضرمة ومرموقة طالما عرفت باتزانها وحكمتها وبنظرتها المستنيرة الثاقبة فيما يتعلق بالتعاطي مع هذا النوع من القضايا السياسية الحساسة والملحة. ففي الوقت الذي ذهب فيه الكاتب لسرد المبررات والحيثيات التاريخية التي دعت وقادت الى نشوء فكرة الوحدة ثم الى ظهور مطلب الإنفصال واستعادة الدولة الجنوبية كحاجة شعبية جنوبية ماسة وملحة "بناء على هذه الخلفية التاريخية المحزنة طبيعي أن تكون الوحدة رمزًا سلبيًا، وتجد كلمة انفصال شعبية في الجنوب".. نجده يستدرك ليقول " لكن غالب دعاتها اما مواطنون حالمون او انتهازيون". مغفلاً في الآن ذاته الفرق الشاسع بين نسبة المواطنين الحالمين والثلة الإنتهازيين! ثم يعود بعدها للحديث عن هذين التيارين غير المتكافئين، بشكل أكثر منطقية وواقعية وإقناعاً عندما يقول: "دعاة الانفصال يبررون رغبتهم، بأن فيه عودة للوضع التاريخي الطبيعي، عندما كان اليمن يمنين معظم القرون الماضية، وأن الشمال يعاني من أزمات يصعب حلها والأفضل عدم تصدير مشاكله للجنوب، والثالث أن الانفصال رغبة شعبية عارمة في الجنوب. وأخيرا، يقولون: إن الانفصال صار أكثر من مجرد فكرة، اليوم هو حركة منظمة سياسيا وعسكريًا، وأمر واقع يجب عدم التصدي له وإلا ستكبر الأزمة اليمنية." وفي اللحظة التي نجد عندها الكاتب مقتنعاً او يكاد بواحدية الحل الأمثل والأمكن والأسهل للقضية اليمنية الشائكة والمعقدة، وإن كان جزئياً عبر حل القضية الجنوبية، أملاً في الحفاظ على نصف يمن هاديء ومستقر وهو الأوسع جغرافية ومساحة خير من يمن واحد متصارع تعمه الفوضى وعدم الاستقرار، نجده يعود لصياغة جملة من المخاوف والعقبات منها ماهو فضفاض وزائف يستخدمه الجميع اعداء هذه الفكرة بالذات كفزاعة لثني الجنوبيين عن قناعاتهم والتأثير على قرارهم، ومنها ماهو حقيقي وقائم الى اليوم ولكن يمكن تجاوزه اذا ما وجدت وأسندت العقلية الجنوبية والقيادة الكفؤة، ووجد الدعم والعون الإقليمي والدولي المتمنع تارة، والموارب تارة أخرى لأسباب نعلمها وأخرى أيضاً لا نجهلها. ما يلمسه القارئ من مقال الراشد، هو أن الكاتب يتأرجح بين فكرتين تبدو أولاهما أوضح وأجلى مهما حاولت العاطفة او النزعة القومية، او ألاعيب الساسة القذرة حجبها والتقليل من بريقها.. وهذا ربما ما حمله في خاتمة المقال، على القول بأن "الانفصال فكرة حمقاء مدمرة بذاتها في عالم يفضل التقارب. ورفض دعمها لا ينفي حق الانفصال لاحقًا، إذا كانت بالفعل رغبة كل اليمنيين وليس بضعة أشخاص". اذ كيف يربط هذا الراشد او المدعي الرشد، ان جاز التعبير مصير شعب ودولة كانت والى الأمس القريب سيدة قرارها وخياراتها برغبة "كل اليمنيين" حد زعمه؟!! إن رغبة الجنوبيين وقرارهم في الذهاب لما يرونه منصفاً ومناسباً لهم في سبيل تحقيق حلمهم وهدفهم الأسمى المتمثل في استعادة وطنهم واقامة دولتهم المستقلة كما كانت عليه قبل العام 1990 انما هي رغبة شعبية بحتة، وإرادة جنوبية صرفة، لا شأن لليمن "كل اليمن" بها. راشد أفندي! ولا علاقة لها برأي هذا القاصر اوذاك!! فانفصال جنوب السودان مثلاً، تم باستفتاء جنوبي خالص بمعزل عن رغبة ومصلحة شماله.. جملة القول، أن الراشد لم يعد راشداً كما عهدناه! فبوادر الخرف والعودة الى أرذل العمر، والتي ينم عنها مقاله هذا على الأقل، لا تخفى على كل ذي عينين كما لا تستدعي تحرياً او تشخيصاً طبياً لإثباتها..!!