في حينا مسجد من اجمل ما تكون المساجد ، يأتي اليه المصلين و يستكين فيه الراغبين في تلاوة القرآن. حرص من بناه على نظافته و تجديد دهان الجدران و شراء مفارش جديدة كلما بلت السابقة او حتى بهتت الوانها. كان امام الجامع مصري الجنسية ، تعاقد معه مالك المسجد عند زيارته للقاهرة في احدى المرات فعرض عليه العمل في صنعاء لتفقهه و اتساع معارفه الدينية و لجمال تلاوته للقرآن و بشاشة وجهه و رقي روحه. كان الامام قد فر من اليمن عقب قيام الحرب في شهر مارس السابق ثم عاد بعد اشهر قليلة بعد ان اطمئن ان قصف السعودية لليمن مركز جدا على المناطق المستهدفة عسكريا ونسبة الخطأ واردة لكن ضئيلة فعاد الرجل الى اليمن برفقه زوجته و اولاده ، الامام هو السبب الأول في استقطاب المصليين الى الجامع و ازدحامه في ايام الجمع. أمام الجامع متسولين ينتظرون المصليين للخروج من الجامع لكي يتسولوا منهم. فيما عدا طفل لا يتجاوز الثانية عشر من عمره حيث كان يدخل ليصلي طوال الاسبوع ثم يخرج ليتسول اما ايام الجمع فكان لا يتسول البتة بل يستحم في منزله المتواضع و يرتدي ثوب نظيف و يبخ العطر و يأتي للصلاة. فيفرح لرؤياه الامام و يلثم الامام و المصليين رأسه داعيين الله ان يبارك فيه. كنت انا كل جمعة اطبخ لهذه الطفل و اسرته غداء بسيط ثم اخذه اليه بحيث تكون يوم الجمعة يوم يسترجع فيها كرامته كطفل. كثيرا ماكنت اراه عصرا يرفع بنضاله الى اسفل ركبتيه و يلعب مع اولاد الحارة كرة. لأنني ام كنت اشفق عليه كما تشفق على صغارها الأمهات. تلك الجمعة ذهبت قبيل انتهاء الصلاة لكي اعطيه الغداء و كنت سعيدة لأنني اضفت مهلبية يحلون بها بعد الغداء. وصلت فوجدته قد دس ثوبه في خصر سرواله مما يدل انه ركض و كان لا يزال حافي القدمين. لحظت ملامح وجهه صارخة بالهلع ، ما ان رآني حتى هب الى. هتف باستغاثة :-" يا استاذة اليوم المصليين كانوا عيتضاربوا ، مدري عادهم داخل او خرجوا. انا خفت و هربت. بعضهم هربوا من الباب الجانبي قبل ما تشتد المضرابة " وضعت صحن الغداء الذي من شدة رعبه لم يتناوله مني كعادته كل جمعة. سألته مستفسرة:-" ليش ؟ خير؟ ايش حصل؟" رفع كتفيه و قلب شفتيه كأنما لم تسعفه الكلمات لينطق بالرد، كان لاهثاً وتمتم :- " مدري ." هدأت من روعه وأخبرته ان يعود الى داره بالغداء و ان لا يتدخل بنزاعات الكبار. قال لي بحكمة تنقص الكثير من " الكبار:- " بس يا استاذة هذا مسجد ، يجو المسلمين يصلوا مش يحانكو اهل تعزان الحوثيين بيعطشوهم و يقتنصوهم و اهل تعز يقولوا لأهل صنعاء يا حوثة السعودية عتدككم ." صمت، مدركة تماما انني امام كبرى شظايا الفتنة. اضاف قائلا و هو يرفع سبابته امام انفه :-" والله ، و الله يا خاله ماكنت اسمعهم بيتصايحوا ، كنت سمعتهم بينبحوا... فجعوني." عضضت شفتي من هول وصفه. سألته :- " طيب ايش حصل بس ، في خطبة جمعة من فتح موضوع تعز و صنعاء و هن خوات؟" اجاب موضحا :- " اصلا الامام كان بيكلمنا عن مقدمة طويلة قبل البدء في الصلاة ، انا دايما اقولها حن اصلي ( وجهت وجهي لله الذي فطر السموات و الأرض حنيفا مسلما وما انا من المشركين ، ان صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين.) مدري من الوسخ يا خالة الذي قاطع الصلاة و صيح " " هيا فيسع نجزنا نشتي نسير نشتري قات" هو كله من ذيه الذي قاطع الصلاة، الامام وقف الصلاة و غضب لوما حمر وجهه. و ادى محاضرة عن ما يجوز و ما لا يجوز في الصلاة. طلب ممن قاطع الصلاة ان يكون رجلا و يعترف بما فعل. محد نطق." سألت الولد الصغير :- " انا مخمنة من ممكن يعمل هكذا. انهم من ازدهروا و صار لهم نفوذ وسطوة في زمن الفتن هذا ، انهم من امتطوا الناس بعد احناء ظهورهم بالفتنة ، انهم من كذبوا و قالوا نحن سنفعل و نفعل ، و اذا بهم لم يفعلوا شيئا. " اضاف الولد :- " انا لو كنت عرفت من هو الذي قاطع الصلاة و الله لكنت ادي لأبوه بوكس ابو اسد ، اهر له صف اسنانه." ابتسمت لبراءته و جمال خياله. ثم استفسرت منه :- " طيب بعدا ايش اللي غير الحديث لصنعاء و تعز ؟" تنهد... تنهيدة كبار. اكمل سرده :- " بعدا الكل ماهم سمعوا الامام . ليكن محد رضي يعترف انه هو الذي قاطع الصلاة. صيح فوقهم الامام و ذكرني بأبي قبل ما يموتوا حين كانوا يصيحوا فوقي لوما ابسر منزل. لكن و لاحد رضي ينطق. فقال الامام عموما دا بيت الله و فيه كلام الله و الصلاة لله و اتباع سنة نبيه ولازم نحترم سنة نبينا و حبيبنا محمد. دا كلام خاتم الانبياء مش كلام ايوب طارش." لاحظ الولد تعجبي فقال مدافعا عن الإمام الذي يحبه و يجله :_" هو اصلا مصري ما يعرفش اسماء حقنا الفنانين. هذه الفترة الأخيرة الإذاعة ما بتدي الا ايوب طارش في الراديه ، مجابرة و طبطبة لأهل تعز .الامام حفظ له ذيه الاسم " ايوب طارش " هو قصده يقل هذا كلام خاتم الانبياء نسمعه و نقتدي به مشو كلام فنان او مغني." هززت رأسي تحسراَ على عمري الذي بات يدور في طاحونة انا فيها الجاموسة التي تدور معصوبة العينين ، لم اسمع " الراديه" منذ ما يزيد عن عام...مؤخرا سمعت اذاعة " ايرام " او " ايران" لم أميز حرفها الأخير. جالي طرش و كرهت كره "الواحمات" كل الاذاعات بسبب اسمها. هو اسم ملك ، لكنه اسم موحي بالعمالة. لكن يبدو لي ان هذا الصبي الصغير المتدين المطلع الذي اصبح بعد الحرب متسولا ايضا كان يتابع الاذاعة و يعرف ما ُيبث فيها. سألته :- " طيب يا ابني بعدما قال الامام " ايوب طارش " ايش حصل ؟" ارتفع حاجبه و رد :- " اوووو..... صاح المصليين من اهل تعز . قالوا ليش ما ذكرت الا ايوب؟ لأن ايوب طارش تعزي بتستخف به؟ مالك ما تذكر الحارثي و الا الآنسي و الا الجرادي ؟ ليش الا تعز تنكلوا بها و تمسحوا بها احقادكم؟" هنا اصيب الإمام بالذهول و سرت سنبت جنبه او يمكن انا لذت به او اردت ان احميه وهو يدافع عن نفسه برحامة مفرطة :- " انا معرفش ايوب طارش دا من فين ؟ و بعدين من تعز و الا من صنعاء هي تفرق في حاجة ؟ انا قصدي اقول لكم نحترم كلام نبينا لأنه شفيعنا مهواش مطرب بيدندن !" اجابه احد المصليين من تعز :-" هذا الفنان اللي يوغني اشرف منكم يا مصريين ، اللي اشترتكم السعودية ، يا عملاء للمال و عبيد لمن غلب." اضاف آخر :- " عيب يا اخ ، احترم الامام ، الرجل رجل دين. لا تدخلاش في السياسة." علق آخر :-" بعدا انتوا يا أهل تعز اول العملاء للسعودية ، السعودية تقصف ترابكم و انتم تقولوا شكرا سلمان. و جايين هنا تتنعموا بحكم الحوثة لأنهم ضابطين البلاد و العباد بينما المقاومة قد رفست عيشتكم فوق ما انتوا اصلا يشتي لكم رفس." احتد احد الرجال من تعز صارخا : -" احنا ؟! احنا يشتي لنا رفس يا حمير ، الحوثي يوهمكم انه ضرب جيزان و انه دمر نجران و انتم تصدقونه و تهتفوا الموت لأمريكا. يقصف تعز و انتم تصفقون له و ترفعوا صوره مثل الحمير. يستخدمكم يا بهائم ." هنا احتدت شراسة النباح و شعرت بالخوف حيث كان الامام و ما قاله عن ايوب طارش قد نساه المصليين و باتوا يتناظرون على تعز و صنعاء. همست في اذن الامام :- " جوا نخرج لنا." هز رأسه رافضا. استبسل محاولا تهدئتهم:- " يا جماعة خلاص ، أنا آسف ، يا جماعة الخير، حصل خير. انا اصلح غلطي. نحترم كلام رسولنا حبيبنا محمد لأن دا كلام نبي مش كلام عبدالحليم حافظ. خلاص ؟ ارتحتوا؟ انا والله ما عارف ان ايوب من تعز و لا عارف ان اهل تعز شايلين في قلوبهم جامد قوي كدا. يالله بقة نكمل صلاة الجمعة." هنا ضحك شخص ضئيل البنية ، رث الثوب ، حامض الرائحة، مقطوع الجاكت، اسنانه شديدة الاصفرار ثم قال :- " خلاص يا إمام ، صلاة الجمعة هذه في ذمتك ليوم الدين ما الان والله ان قد شخرج. اليوم شستلم آلي و كيس قات ، مشتيش اتأخر. من بيحامي على صنعاء الا احنا " التفت اهل تعز اليه ، هذا الشخص جماعته هي من تقتنص النساء و الاطفال في تعز و هي من تدك بيوت تعز. هذا الشخص هو من تسمي جماعته اهل تعز " دواعش. هذا الرجل عدو تعز و عدو اهلها. هذا الرجل جماعته خلخلوا قامة تعز الشابة حتى باتت تزحف على صدرها . اقترب احد الرجال من تعز فدفع هذا الرجل " الحوثي" و هتف به :- " بعتوا البلاد عشان الآلي و القات والشمة. بعتوها لإيران الله لا يجري دماكم سيول في الشوارع ." هنا رفع الشاب الحوثي يده و دفع الرجل التعزي فتجمع حوله رفقته ففررت يا استاذة الى هنا." كان الصبي يلهث و كأنما فر للتو من المسجد. وشوشت الولد :- " بنفسي اعرف زد صلوا و الا لا؟" اشار الصبي بسبابته الى عقله هاتفا : - " ايين صلاة يا خالة . اقولش قد كانوا عيكلوا من لحم بعض." انكسرت روحي. الفتنة هذا ما جنيناه ممن ارادوا للحرب ان تكون " حرب كبرى عالمية" لمن تتغذي بالحروب ارواحهم و لمن تنتشي لموت الشباب وجوههم ، لمن يحتفلون بالشهيد و يزغردون ، من تتورد خدودهم من نشوة النصر و اليمن امام اعينهم اطلال. هذا ما جنيناه. مخطط الفتنة دمرنا من داخلنا. و لولا ضعفنا لما نجح ابالسة الفتنة في تأججيها و لا نجحت الفتنة في تقطيع اوصالنا. تتعصبون مع من و ضد من يا ابناء بلدي و انتم تتعصبون لخدمة من يريد بالفتنة ان يضعفنا ؟ و ضد من تتعصبون و كلنا ابناء اليمن؟ تتعصبون لصنعاء و هي عاصمتنا جميعا او تتعصبون لتعز و هي بيروتاليمن . هيا نقاوم الفتنة و ننجح في محنتنا هذه لأنها حتما اعظم المحن. لمن تتعصبون يا ابناء بلدي و انتم بهزيمتكم امام سهام الفتنة - تنصرون علينا اعداءنا. عدو في السماء يقصفنا بالصواريخ و عدو على الأرض يقصف ارواحنا بألغام الفتنة. لمن تتعصبون يا كل ابناء اليمن ؟ لصنعاء؟لعدن ؟ لتعز؟ لمأرب؟ لآل البيت او ضد آل البيت.... كل هذا غير مجدي. لا بأس. ظن كما تشاء و اعتقد ما شئت ، حب و اكره. سب و اصفح. و على رمال شاطئ عدن اكتب بإصبعك شكواك لله ممن جرحك... سيأتي الموج و يمحوها. لكن احفر اسم اليمن على حجر ، يظل في الحجر منحوت لا يتغير و لا يُمسح و لا يبلى. عاشت اليمن و ستعيش اليمن و سنعيش شعب واحد. اخذ الولد الغداء و مضي الى داره. اما انا فدخلت الى بوابة مدخل المسجد استرق النظر الى داخل المسجد و صعقني المنظر. كان الإمام يصلي وحيدا و خلفه لا أحد. سالت دموعي بلا أي نية للبكاء. لقد ترك اليمنيين الصلاة لأن يد الفتنة دفعتهم الى بيوتهم صفعا و ركلا. لكن فلنعاهد انفسنا وبعضنا : من اليوم و من هذه اللحظة تحديدا لن نسمح لأحد من الجهلة العملاء ان يفتنونا ، و اذا اصغينا اليهم ، فتحنا لهم اذاننا وقبلنا ان يفتنونا فاسمحوا لي ان العن ابوهم و العن ابونا. سنكون قد اثبتنا ان الاغنام و الماشية و البهائم في اليمن ارقى منا لأن الذئب عدوها و لا عدو لها من بنيها. و سأنادي الغنم ليحلوا مآسينا و سأقبل اقدامها لكي يعلمونا كيف يمشين مع بعض في جماعات و سأتوسل اليهن ان يفتونا، هل يجوز للمسلم العربي ان يقتل مسلم عربي ؟ و هل يجوز للمسلم اليمني ان يقتل اخوه؟ ابن رحم امه و من صلب ظهر ابوه ؟ ، يا أغنام اليمن – بالله – بالله – بالله – جزاكن خير، افيدونا