هذا الحديث يردكم من كلية الاعلام. الأطلال والمجد على شاكلة مبهرة تجسدها الحجارة المعتقة في المبنى التليد المستوحى من دور الريف.. كجوز الهند مشبع الحلاوة من داخله على أطرافه نكهةً حلوة المذاق يبدو من شكله الخارجي نبتة تخثره في الوحل‘ تلك هي دارنا ورفقتي حيث أمنا بلقيس وزملائها يكدحون ذاتيا لإرضائنا وأنفسهم متشبثين بالأمانة الملقاة على مناكبهم.
أتحدث عن كنز من كنوز هذا البيت العائلي‘ أمنا بلقيس بذرة الأمومة الخالدة ونبض الأمانة واستاذة الخلق النبيل. قبل أن تكون مكلفة بتفريغ أوراق منهجها الدراسي لنا‘ تستبق واجبها بنبلها وهي الصوت الذي يترنم به كل طالب صقل على يد هذه الدكتورة.
أتدرون أن إيجاد أم أخرى في هذا الكوكب لهو أمر في غاية الاستحالة فالله قد منحنا أما واحدة في كل حياتنا لعبرة وجود الله أدرى بها. لكن نحن ربما نتجاوز هذه البديهية ونجمل الحديث مع دكتورتنا بلقيس التي أعتبرها أنا بتجريد القول عن كل صيغ المجاملة‘ أعتبرها بمثابة أمي‘ هي دكتورتي والقانون يجيز لها التعامل معي بأساليب محددة لكن روحها الرحبة وصفوة نفسها يجعلانها تتعامل معنا كأنما نحن أبناء لها ما منحها وجود راسخ في قلوب طلابها عامة سواء نحن أو من مروا ..
في دفعتي أكثر من 110 إذا استبينتهم عن دكتورتنا بلقيس أثق بعمق أن اجاباتهم لن تخرج عن اطار الثناء من مبدأ الاحسان بالإحسان..
دكتورك ليس معناه ذلك المفرط في الغضب‘ فاقد الابتسامة عن محياه‘ يزجي وجهه بعبارات الشؤم على أنه حازم أمره معك. دكتورك ينبغي أن يكون نسخة مشابهة لأبيك يسددك ويطلقك ألي الأمام صحيح أنك صرت كبيرا لم يعد المقام متاحا لهكذا تفسير. قد يقول قائل أن طالبا في الثالثة والعشرين من عمره لم يعد طفلا يستلطف الحنان من معلمه وأن الأمر بات اليوم علاقة ثلاثية بين دكتور وطالب ومنهج تعليمي..
قال لي زميلي ذات مرة ما رائيك بدكتورتنا بلقيس‘? قلت له باختصار دكتورتي وأمي‘ انزوى الفتى ولحظت تعابير وجهه تميل إلى الحزن‘ مباشرة اقتحمته بسؤالي وانت ما رائيك بها‘? قال لي أمي ماتت قبل أشهر‘ تريث وتنهد‘ ثم استدرك يقول: وأنا الحظ في بلقيس وجه أمي وقلب أمي وروح أمي‘ أرى منها أمي تشرق مرة أخرى للوجود. جرد دكتورته من مسماها الاكاديمي واكتفى بنطقها بلقيس‘ لقد كان يتحدث عن أمه بالعفوية وهزم كل مشاعر الصمود في ذاتي أمام قول كذاك.
كان حديثا تراجيديا يفلج القلب كالفأس ولعله يكفي لتلخيص كلامي إجمالا.. الاستشهاد منه أن الانسان أيا كان يرفع رصيده عند الآخرين بعطائه للناس وحسن تعامله معهم ناهيك عن دكتور يعمل بالمسؤولية ويتعداها بجهد تفرضه نفسه النسيلة عليه. فوجودك لا يمنحك أياه إلا الناس ومواقفهم منك. هذه القاعدة المنطقية..
القول أيا كان في تفاصيله يظل عقيما غير مكتمل النصاب. أمنا بلقيس لا أجد سهولة لسردها في نثرية كهذه. لكن من دافع تقديرينا لها ولدكاترتنا الذين هم سبيلنا الى القمة نحاول أن نمنحهم شيئا من الثناء ولو كان القول هشا لكنه نابع عن شعور خصب لمثل هؤلاء الخالدون الذين نصادفهم في الحياة فيحفرون لأنفسهم مقامات مؤرخة بالود لا تمحيها تعرية الزمن حتى نبلغ الأبد.. فكل الاجلال لأمنا ودكتورتنا بلقيس وكل دكاترتنا بلا استثناء.. والله يعلم صدق القصد..