الواقع الذي يجب أن ندركه اليوم أن الحرب في اليمن هي في الأساس حربين في آنٍ واحد، فالشمال يخوض حرباً بالوكالة على أرضه وعلى حساب شعبه ومستقبله وأطراف الصراع فيه قوى خارجية كلٌ منها يريد أن يمد نفوذه من خلال سيطرة الطرف الحليف معه، وفي المقابل استفاد الجنوبيون من دعم تلك القوى التي تتصارع على الساحة اليمنية عبر وكلائها المحليين ليجعل منها حرب تحرير واستقلال عن الشمال الذي احتله منذ ما يزيد عن 22 عاما. ولكم أستغرب حين أرى أو أسمع من يراهن على إنجاح التسويات أو التوافقات السياسية بين قوى الصراع المحلية ويختزل ذلك الصراع بأطراف الصراع المحلية. فهذه الأطراف ليست سوى أدوات حرب تحركها قوى الصراع الخارجية ولن تتوقف تلك الأدوات عن حربها إلا متى ما شاءت لها القوى التي تدفع بها وتديرها. ولذلك نقول أن من يريد أن يبحث عن توافقات سياسية فليذهب إلى إيجاد تلك التوافقات بين أطراف الصراع الخارجية، فالأطراف المحلية ليسوا سوى وكلاء لهم. فلن يقبل الانقلابيون بتسوية سياسية مالم تقبل بها إيران، ولن تقبل حكومة الشرعية أيضا أي تسوية سياسية مالم تقبل بها دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، أما أطراف الصراع المحلية فلن تقدم في الأمر شيئا مالم تكن راضية عنها مراكز الصراع الحقيقية في اليمن.. وهذه الصورة من الحرب تتجلى بشكل أكبر في شمال اليمن. أما فيما يخص الجنوب فالوضع يختلف نسبيا عن ما هو حاصل في الشمال، ففي الجنوب كانت قوى التحرير بشقيها السلمية والمسلحة تسعى إلى الخلاص والاستقلال عن الشمال، وكانت مستعدة أن تدفع الثمن في سبيل ذلك الخلاص مهما كان باهضا، ولم يكن في حسابها أن تغيرات سياسية ستجري في المنطقة بالشكل الذي حصل، وستختصر لها الوقت والجهد في سبيل تحقيق أهدافها التي تسعى إلى تحقيقها، ولذلك كانت طبيعة الحرب في الجنوب مختلفة تماما عن طبيعة الحرب في الشمال. وهنا بدأ يلوح في الأفق واقعاً جديداً بدأ يتشكل على الأرض ويبدو أن دول التحالف بدأت تقبل به وتعمل بشكلٍ قد يبدو لنا غامضاً نحو تحقيقه وبقوة. ربما هذا الواقع لم يكن هدفاً ضمن مخطط دول التحالف عندما قامت بعاصفة الحزم وربما كان هذا خياراً بديلا ضمن خياراتها.. أو هكذا يبدو لي الواقع...
ما يختلف به الجنوبيون عن الشماليين أيضا هو أنهم ليسوا ذو تجارب سابقة في القيام بحروب بالوكالة على العكس تماماً من أبناء الشمال الذين يبدو أن تجاربهم كبيرة في هذا المجال. ففي ستينيات القرن الماضي قامت الثورة السبتمبرية في الشمال، وبقدر ما كانت ثورة (كما يطيب للبعض أن يسميها) فهي ليست سوى انقلاب على نظام الحكم آنذاك.
وأياُ كانت طبيعة الحرب التي قامت آنذاك (ثورية أو انقلابية) فقد كانت حرب بين قوتين على الأرض وكلا القوتين تمثلان في الأساس قوى صراع خارجية، تماما كما هو عليه حالهم اليوم. فكانت المملكة السعودية الداعمة لنظام الحكم الإمامي آنذاك وكانت مصر وزعيمها عبد الناصر الداعمة للجمهوريين الثائرين ضد نظام الحكم الإمامي.
وفي هذا الصدد أتذكر قصة حكاها لي أحد الرجال الذين شاركوا في حصار السبعين على صنعاء كيف أن قوات الإمامين كانت تحاصر صنعاء وكادت أن تسقطها عدة مرات، حيث كانت تلك القوات تسيطر على أجزاء كبيرة من صنعاء وكان يحصل أن تتقدم تلك القوات إلى الحد الذي لم يفصلها عن مركز القيادة سوى بضع كيلو مترات فما أن تكاد تطبق تلك القوات على الجمهوريين حتى تأتي التعليمات لقوات الإماميين بالانسحاب إلى مواقعهم السابقة... قال لي ذلك الرجل أن بعض من كانوا ضمن قوات الإماميين استغربوا تلك التصرفات من قيادتهم حينها، فرد عليهم أحد القيادات العسكرية قائلاً: " اعقلوا الجنيهات ع تنقطع لو أسقطناها". بعد ذلك تم إنهاء الحرب من خلال توافق سياسي ضمن لأسرة حميد الدين بعض حقوقهم وتم تقاسم السلطة والحكم فيما بين المتحاربين وبصيغة لم تغير في حقيقة النظام إلا مسماه.
هذا ما كان واقعاً في حربهم في ستينيات القرن الماضي. فقد كانوا يتقنون فن التمثيل حتى في حروبهم أمام القوى التي كانت داعمة لهم ويخوضون حربا بالوكالة عنها وكانوا في الأصل متفقين فيما بينهم بشكل أكثر مما نتصوره.
لا ننكر أنه ربما كان هناك بعض الخلافات التي قد تدفع بهم للحرب ضد بعضهم لكنهم دائماً ما يجعلون تلك الخلافات في الحدود التي يسمحون لها أن تصل إليها فقط، وعندما يدركون حجم المؤامرات عليهم من الخارج يتفقون فيما بينهم ويقررون (بشكلٍ متفق عليه) الخوض في حرب بالوكالة فيستنزفون تلك القوى الخارجية في حرب ظاهرها "حرب بربرية" ضد بعضهم وباطنها "تمثيلية هوليوودية" مع بعضهم.
اليوم يكررون نفس المشهد في حربهم القائمة، فكلا الطرفين يخوضا حربا منذ ما يزيد عن سنة ونصف السنة وكلاهما في الحدود والمستوى اللذين اتفقا عليها. فقط كانت حربهم الحقيقية في الجنوب ومع أبناء الجنوب، وهناك رأينا كيف كانت طبيعة الحرب القائمة والتي تختلف كلياً عن حربهم اليوم في جبهاتهم المختلفة.
فهل أدرك الخليجيون حقيقة تحالفاتهم مع القوى التي تتصارع اليوم في الداخل اليمني؟ وهل اقتنع الخليجيون أن ما من حليف حقيقي معهم في اليمن سوى أبناء الجنوب؟ ولذلك هل سيكونون إلى جانب أخوتهم في الجنوب لتحقيق أهدافهم وتطلعاتهم... نأمل ذلك.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.