يسعى الجميع في الوقت الراهن في مصر إلى تجديد الخطاب الديني؛ بعد حالة ظلامية أحدثتها الجماعات المتطرفة المحسوبة على التيار الإسلامي؛ جاء ذلك من منطلق أن ما يحدث من جرائم عنف يعد انحرافا عن مسار التعاليم الدينية الإسلامية السمحة؛ لكن التطرف ليس نبتة عصرية؛ فهو موجود من القدم؛ وتوالت على مر التاريخ أحدث عدة تؤكد على التطرف الديني وتدفع للمضي قدما في تجديد خطابه؛ من بين هذه الأحداث ما حصل للعالم الجليل ابن رشد؛ من محاولات حرق كتبه وتكفيره واتهامه بالزندقة.. ويتعرض كتاب "القضايا الكبرى في الإسلام" للشيخ عبد المتعال الصعيدي لهذه الحادثة إذ يحاول أن يصحح نظرة اتهام الفلاسفة بالكفر والزندقة من خلال عرضه لمحنة ابن رشد التي تعرض على إثرها للتكفير والنفي لكن الله أنصفه ونصره ورد كيد الحاقدين عليه في نحورهم. وقصة الفيلسوف ابن رشد كما أوردها الشيخ عبد المتعال في كتابه تبدأ بتعريف له حيث ان ابن رشد هو العالم الفيلسوف صاحب القضية الشهيرة التي أماطت اللثام عن علاقة الدين بالفلسفة وأثبتت للكافة لاسيما منهم أصحاب العقول أن الحكمة هي الأخت الرضيعة للشريعة. ولد العبقري ابن رشد في قرطبة سنة 520ه وكان أبوه قاضيًا لها وكذا جده من قبل فدرس الفقه بحكم البيئة التي نشأ فيها حتى برع فيه وأصبح من كبار أئمة المذهب المالكي ثم أصبح قاضيًا لقرطبة، وإلى ذلك درس علوم الفلسفة حتى صار علمًا يشار إليه فيها وجمع بين الحكمة والشريعة ليفحم بأسلوبٍ عملي كل من زعم أنهما خصمان لا يجتمع أحدهما بالآخر. وكان حاكم الأندلس آنذاك هو أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن وكان ملكًا عظيمًا ذو عقلٍ راجح وهمةٍ عالية وعُرِف عنه حب الفلسفة وعلومها، وكان الفيلسوف ابن طفيل طبيبه الخاص، وقد ذكر أمامه ذات مرة أنه بحاجةٍ إلى فيلسوف يشرح كتب أرسطو فدلَّه ابن طفيل على ابن رشد والذي بدوره شرح الكتب وأوضح غوامضها وخاض بحرًا وقف الحكماء بساحله وكان آيةً في الذكاء والفهم، فسُرَّ به الملك وقربه منه وأعلى مكانته واتخذه طبيبًا بعد موت ابن طفيل ثم عينه قاضيًا للقضاة في قرطبة. ثم توفي أبو يعقوب وتولى بعده ابنه الملقب بالمنصور وجرى على سنة أبيه في تقدير ابن رشد واحترام الفلسفة لكن حاشيته ضمت بعضًا من الفقهاء والمحدثين الذين عرفوا بعدائهم ونقمتهم على ابن رشد ونظرائه من الفلاسفة، وقد ساعدهم في الوقيعة بين الحاكم وابن رشد أنه كان يخاطب الملك مخاطبة الند للند فلم يكن يحسن التملق والمداهنة ولم يعرف لسانه عبارات المديح الزائف التي اعتادها الملوك. لكن المنصور ضاق صدره بالفلاسفة وتغير مزاجه نحو ابن رشد وانتهز المتعصبون الفرصة وكادوا له عند الملك فاتهموه بالشرك وأنه يعبد الكواكب! وقدموا بين يدي دعواهم عبارة كتبها ابن رشد حكايةً عن بعض قدماء الفلاسفة وهي قولهم:"فقد ظهر أن الزُّهرة أحد الآلهة"؛ فعقد المنصور من فوره مجلسًا بالجامع الأعظم في قرطبة لمحاكمة ابن رشد وحضره القاضي أبو عبد الله بن مروان والخطيب أبو علي بن حجاج ثم أُحضر ابن رشد ومعه تلاميذه وبعض المشتغلين بالفلسفة، وقام أبو عبدالله بن مروان القاضي يخطب في أضرار الفلسفة وتحريم الاشتغال بها!، ثم قام الخطيب أبو علي فكفر ابن رشد وأصحابه وطلب معاقبتهم. لكن محنة ابن رشد رغم ذلك لم تطل كثيرًا فقد انتقل المنصور إلى مُرَّاكِش وبَعُدَ عن خصوم ابن رشد ولم يجد في مُرَّاكِش ما وجده بينهم في قرطبة فأعاد التحقيق فيما نُسب إلى ابن رشد من كفرٍ وإلحاد وشهد عنده جماعةٌ من أعيان مدينة أشبيلية بأن ابن رشد برئٌ مما نُسب إليه فأبطل حكمه على ابن رشد بالنفي واستدعاه لمراكش فقربه وكرمه ورضي عنه وعن أصحابه.