بين الغباء السياسي ، والثقة العمياء ، توجد جماهير تائهة انهكها مسيرها الطويل، تهتف باسم وطن لايسمعها ، وأن سمعها لاتطيعه ، وكلما زادت الجماهير في تيهها ، زاد الوطن في عصيانها ، فلا الجماهير أرخت الشعرة للوطن ، ولا الوطن أرخها لها ، لتنتهي عملية المماحكة هذه بنتيجة واحدة في كل مرة ، وطن يجد نفسه مرميا على قارعة التاريخ كاللقيط الذي لم تجرده خطيئة الأبوين من حاضرة ومستقبلة فحسب ، بل ذهب بها الظلم والغطرسة إلى تجريده من اسمه ونسبه ، وجماهير وجدت نفسها محشورة أمام كوة صغير ، فتتلاشئ أصوات العقل في ضوضاء الطاعة العمياء ، والولاء الضيق ، اللذان لم يتركا للجماهير إلا خيارا واحدا ، وهو أن يلج الجميع وفي وقت واحد في الكوة الصغيرة التي لاتلج إليها حتى خيوط أشعة الشمس . لتجد الجماهيرنفسها محاطة بالموت من كل جانب، لاخيار لها سوى في اختيار الباب الذي تلج منه لتلقى حتفها ، أمام الموت خنقا على جدار الكوة ، أو دهسا تحت أقدام الجماهير المتزاحمة . فمات من مات ، وبقى من بقى ، وفي كل مرة نمجد الموتى الذين قضوا نحبهم تحت أقدامنا وسط الزحام ، أو الذين دفعناهم دفعا للولوج من الكوة الضيقة التي لايلج إليها حتى الضوء ... فيتنازل من لايملك لمن لايستحق ، ويتفق الجميع على الاحتفال بذكرى يوم التزاحم من كل عام ، بعد أن قرر مجموعة من الحمقى تسمية يوم المأساة بيوم التصالح والتسامح ، وليتهم اسموه يوم البكاء على اللبن المسكوب ، عفوا الدم المسكوب لأن الذي أريق على وجه الكوة دما وليس لبنا . لم تسأل الغوغاء القيادة الحمقى ماعلاقة الأشلاء التي طحنتها أقدام المتزاحمين ، والدماء المراقة على وجه جدار الكوة بالتصالح والتسامح ؟؟؟ و لم تكلف القيادة الحمقى نفسها تفسير العلاقة بين النقيضين ، ولم ينتبه لهذه الجزئية سوى مجموعة من العقلاء الذين لايعبأ برايهم ، ولايلتف أحد لمشورتهم ، بعضهم ممن شهد زحام يوم الكوة ، والبعض الأخر ولد بعد واقعة الكوة ، فكانوا يصيحون في الجموع المحتفلة بيوم الكوة مرددين (المخازي تطوى ولاتروى ، المخازي تطوى ولاتروى ) لكن صخب الاحتفال حال دون أن تقرع جملة المخازي تطوى ولاتروى أسماع المحتفلين ، فغلب الغوغاء بقيادة الحمقى عصبة العقلاء حتى صار يوم بعاث يوما مشهودا لايتخلف عنه إلا منافق معلوم النفاق . فشعب أستأثر برايه الغوغاء ، وسفه العقلاء ، وأوكل أمرة إلى مجموعة من الحمقى ، سيظل ملازم للخطيئة مهما ادعاء التوبة ، وأن حلف إيمانا مغلظة على أنه لن يعود إليها ، لأن عقله لايزال حبيسا خلف غضبان سجن القبيلة ، الذي لايأوي إلا الحشرات التي تحمل في بطونها سموم الأمراض الفتاكة ، وإردته لاتزال رهينة للولاء المناطقي النتن . لذا لابد من ظهور فريق ثالث ، يوقف العبث بالإرادة الشعبية للجماهير ، ويعيد للوطن كبريائه ومهابته في نفوس أبنائه ، فشوكة الميزان لن تتوقف عن حركتها العبثية إلا بتساوي مثاقيل الكفتين .