معظم القراء لا يتذكرون ما كان يحدث في مصر في أوائل الستينيات من القرن الماضي، بل إن معظمهم، طبقا لإحصاءات السكان، لم يكونوا قد ولدوا بعد في ذلك الوقت، من بين ما أتذكره عن ذلك الوقت أشياء قد تبدو طريفة لقراء اليوم. أتذكر مثلا كيف كان يحتدم النقاش بين المثقفين المصريين في أوائل الستينيات، حول بعض القضايا التي اختفت من المانشيتات تماما بعد ذلك، ولابد أن تبدو إثارتها الآن شيئا غريبا للغاية. هل يتصور القارئ مثلا أن المثقفين المصريين كانوا يعتبرون حينئذ أن من المهم أن يحسموا القضية التالية: هل الاشتراكية التي تحاول مصر تطبيقها يمكن أن توصف «الاشتراكية العربية»، أم الأفضل الاشارة اليها بلفظ «الاشتراكية» فقط مجردا من أي وصف؟ ليس من الصعب أن نفسر اختفاء هذا الموضوع الآن من النقاش، إذ إن الاشتراكية نفسها، سواء كانت عربية أو غير عربية لا يكاد أحد يذكر اسمها الآن. ربما كان السبب أنه لم تعد هناك تقريبا دولة واحدة تصف نفسها بالاشتراكية، أو أن الخلاف بين أنصار الاشتراكية وأنصار الرأسمالية لم يعد مطروحا الآن بقوة، قد يبدو هذا غريبا لأول وهلة في ظل استمرار الاهتمام بقضية المساواة، ومع كثرة الأدلة علي أن توزيع الدخل ازداد سوءا خلال الأربعين عاما الماضية، في بلادنا وخارجها. المهم أن الاشتراكية لسبب أو آخر انسحبت بهدوء من المناقشات، وشطبت من جدول الأعمال بعد أن كانت أملا وشعارا تتوق اليه أفئدة الكثيرين، وتثير في نفس الوقت الاستياء والغضب لدي كثيرين غيرهم. أتذكر أيضا خلافا آخر احتد في أوائل الستينيات حول قضية «الفن للفن أم الفن للحياة؟»، ويدور حول السؤال التالي: هل علي الأديب أو الشاعر، أو حتي الفنانين التشكيليين أن يراعوا فقط الشروط المطلوبة للعمل الفني الناجح، بصرف النظر عن موضوعه، أم عليهم الاهتمام قبل كل شيء «بالقضية الاجتماعية» التي يخدمها العمل الفني، حتي ولو جاء هذا علي حساب الاعتبارات الفنية؟ كان المتحمسون للاشتراكية يرفضون بالطبع شعار «الفن للحياة»، بينما كان الأقل حماسا لمذهب سياسي بعينه يفضلون أن يتركوا الحرية كاملة للفنان ليفعل ما يشاء. احتدم في بلادنا أيضا خلاف آخر بين أنصار اللغة الفصحي وأنصار العامية، إذ سمح الأدباء المتحمسون للاشتراكية بأن يخرج الأديب عن قواعد اللغة الفصحي إذا تطلب ذلك «مضمون العمل» أو رسالته، أو إذا تصور الكاتب أن اتباع قواعد الفصحي يخل بهذا المضمون. من المدهش كيف اختفت الموضوعات الثلاثة اختفاء يكاد يكون تاما، من حياتنا الثقافية اليوم. لا أحد يبدي الآن قلقه علي انتشار العامية في الكتب الأدبية أو في الصحف، أو أي اهتمام بما إذا كان الفنان يخلص لشروط العمل الفني اكثر من إخلاصه لما يؤمن به من مبدأ اجتماعي (إذا كان لديه مثل هذا الايمان أصلا)، ناهيك عن الاهتمام بما إذا كانت دولتنا تطبق أي نوع من الاشتراكية أو لا تطبقه، عربيا كان هذا أو غير عربي. ما السبب يا تري في اختفاء هذه الموضوعات من حياتنا علي هذا النحو؟ فلنتذكر أنه في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي رفع شعار «نهاية الأيديولوجيات»، إذ بدأ يحدث تقارب تدريجي بين الأنظمة السياسية المتباينة في الدول الاشتراكية تأخذ ببعض أساليب الاقتصاد الرأسمالي والديمقراطية، والدول الرأسمالية تطبق بعض الاجراءات الضرورية لتقليل التفاوت في الدخول وتخفف من الصراع الطبقي، انعكس هذا التقارب بين النظم السياسية وبين السياسيين أنفسهم، في تقارب مماثل بين المثقفين (كما كان لابد أن يحدث)، إذ رأي المثقفون شيئا فشيئا، أن الاختلاف بينهم ليس بهذه الدرجة من الحدة، من الممكن مثلا إفساح المجال للعامية دون أن يؤثر هذا علي المكانة التي تحتلها اللغة الفصحي، والفن يمكن أن يخدم الحياة دون افتئات يذكر علي شروط الفن الجميل، أما الاشتراكية فلا يهم كثيرا في الحقيقة وصفها أو عدم وصفها بأنها عربية، فالمهم هو جوهر العمل الذي تقوم به، وليس اسمه. هل انحسار وتراجع هذه القضايا الثلاث يدلّ إذن علي نضج في الفكر؟ هل كنا علي درجة عالية من السذاجة ثم تجاوزناها مع مرور الوقت واكتسبنا قدرا أكبر من الحكمة؟ لا أظن أن الأمر بهذه البساطة كنت قد قرأت مرة تعبيرا طريفا عبّر به جورج أورويل، علي قول لم يعجبه، وكان التعليق هو: «إن هذا القول لا يمكن أن يصدر إلا عن مثقف!» هل هناك حقا بعض الأقوال السخيفة التي لا تصدر عادة من شخص أمي أو غير مثقف، ولكنها يمكن أن تصدر من مثقف لديه إعجاب زائد بالنفس، أو يجب أن يستعرض حجم ثقافته أمام الناس، أو أن يستخدم بعض التعبيرات المستعصية علي الفهم للاسهام باتساع معرفته؟ أظن ذلك. وأظن أيضا أن كثيرا مما كان يصدر من المثقفين في مجادلاتهم حول ما إذا كان الفن للحياة أو لغيرها، وما إذا كان من الجائز استخدام العامية أو غير جائز، ناهيك عن جدلهم حول ما إذا كانت اشتراكيتنا عربية أو غير عربية، هو من هذا النوع الذي كان يعنيه أورويل لقوله إنه «لا يصدر إلا عن مثقف»، وأنه من المستحسن عادة تجنب مثل هذه المناقشات أصلا، والاستعاضة عنها بالممارسة الفعلية للكتابة أو الفن أو السياسة. يذكرني ذلك بواقعة طريفة، إذ كنا نجلس منذ عشرين عاما مع مجموعة من الفلاحين في مدينة صعيدية، وكنا مشغولين وقتها بحادث من أحداث الفتنة الطائفية، وكانت هذه المدينة من المدن التي لا تعاني مثل هذه الأحداث. وجه أحد المثقفين القادمين من القاهرة سؤالا إلي بعض الفلاحين عن سبب عدم وقوع مثل هذه الأحداث في مدينتهم، فأجابة الفلاح باستغراب «وهل يسأل العاقل لماذا هو عاقل أم يسأل المجنون عن سبب جنونه؟». * نقلاً عن "الأهرام"