الفشل أياً كان، وفي أي مجال، ليس جُرماً أو عيباً، بقدر ما هو فرصة تكسب فيها التجربة التي تجعلك تنظر إلى مسببات هذا الفشل. وبالتالي تجنُب تكرارها، كون التجارب الناتجة عن الفشل تمثل مدخلاً لتصحيح هذا الفشل، وتصحيح أخطائه، لذا، فإن النظر إلى الفشل من الزاوية الإيجابية، هي أول خطوة في تصحيحه. نحن في الجنوب بعيدين عن هذه النظرة الإيجابية للفشل، والاستفادة من التجربة في التغيير، بل لا نرى في الفشل فشلاً، فنعاود تكراره مرات ومرات، نبدو في هذا وكأننا لا نتّعظ من التجارب، ولا نحتكم لها، تأخذنا العاطفة بعيداً عن فهم الواقع، وبعيداً عن دراسة تجارب الماضي!
ماضي «الجبهة القومية» وما عُرفت به من استبداد الرأي والموقف، ورفض الآخر، وقمعه، وحتى قتله بدعوى «الوطنية» يبدو ماثلاً أمامنا في حاضر ما نراه من ثقافة تشبه إلى حد بعيد تلك الثقافة الإقصائية والشمولية!
بل إن دائرة هذه الثقافة الشمولية التي جسّدتها الجبهة القومية، اتسعت، وامتدت من ماضٍ حُصرت فيه، في إطار «القيادة» التي كانت تُمارس الإقصاء والتخوين ضد مخالفيها، إلى حاضر باتت فيه «القيادة»، وعوام «الشعب» أيضاً تمارسها بدعوى «الوطنية»!
في حاضرنا، نجد المواطن الذي يحمل فكراً سياسياً معيناً، لديه الاستعداد لقمع الرأي الآخر، وتخوينه. نبدو في هذا وكأننا نسعى بكل جهد نحو استنساخ تجربة الماضي، للمستقبل أيضاً، وهكذا سنقتل مستقبلنا بأيدينا، كما قتلنا ماضينا، وأضعنا حاضرنا!
في السابق، قاد ثورة (14 أكتوبر) مناضلين أحرار، من كل فصائل الطيف الجنوبي، ولم يشفع لها نضالهم حتى في البقاء أحياء، إذ أن سطوة «الجبهة القومية» كانت سيدة المشهد، طاردتهم، واعتقلتهم، وقتلتهم، تكريساً للثقافة الشمولية التي كان عمادها التخوين، ومن ثم الإقصاء، والقتل!
وقبل ميلاد هذه الثورة أيضاً، قاد السلطان الثائر «محمد عيدروس العفيفي» أولى الثورات ضد الاحتلال الانجليزي في الجنوب، ولاحقاً قتله رفاق «الجبهة القومية»، بتهمة العمالة للاحتلال، الذي كان أحد الأوائل الذين ثاروا عليه!
هذه الأحداث الماضية ليست ل «السرد» فقط، بل لنضعها نُصب أعيننا ك «تجربة»، ولم تكن حينها مجرد أحداث عابرة، بل تشكّل على إثرها عهداً جديداً مستبداً، عنوانه «الحزب الواحد والصوت الواحد»، وفي هذا لم تكن «الجبهة القومية» سوى لباساً ظاهرياً ل «الحزب الاشتراكي» الذي تشكّل لاحقاً «فكرياً» على أيدي الرفيق عبدالفتاح إسماعيل، و«أمنياً» على أيدي محسن الشرجبي، رئيس جهاز أمن الدولة حينها!
أحداث هذا الماضي، تعود بصورة أو بأخرى من جديد، في حاضرنا هذا. عنوانها ليس ببعيد عنها، فملامحه تتشكل يوماً بعد آخر، في عدم القبول بالآخر، ورفضه، وتخوينه. وإذا قادت الجبهة القومية أحداث الماضي القمعية، فأقصت الأحرار، وخونتهم، وقتلتهم، ثم سارت بالجنوب نحو خيارات الفشل الذي خططت له مسبقاً، فإن ملامح الحاضر تبدو مماثلة، لا ينقصها سوى إماطة اللثام عن ضبابية المشهد، لنرى حينها جبهة قومية «جديدة»، بظاهر وطني، وباطن قمعي، تماماً كما كانت عليه «الجبهة القومية» حينها.
هذا المشهد، يضعنا أمام اختبار صعب، واختيار أصعب، وكوننا على أعتاب مرحلة جنوبية مفصلية، وأحداث عربية فاصلة، فالنتائج هنا قد تأتي عكسية، بعيدة عن الحلم الأمثل، وقد يصنع هذا المشهد واقعاً يخالف الهدف الجنوبي «استعادة الدولة الجنوبية»، ويحدث شقاقاً جنوبياً يستفيد منه الخصم في «صنعاء» الذي لا زلنا في حرب معه، ولا زال يتربص بنا الدوائر، ويتحيّن فرصة للعودة بعد أن يتفكك البيت الجنوبي الداخلي، تماماً كما حدث قبل (1990م) بعد أن نجحت الجبهة القومية في تفكيك البيت الجنوبي ودفعه دفعاً إلى «الوحدة».