ماذا لو قدم المجلس الإنتقالي الجنوبي نفسه لنا وللعالم في اعلانه الأول على انه كيان سياسي يسعى بالطرق السلمية في اطار منظومة العمل السياسي القائمة تحت مظلة الشرعية ، الى حشد وتوظيف الطاقات لتحقيق الإنفصال ، واستعادة الدولة الجنوبية المستقله ، وعاصمتها عدن ؟ الأرجح انه الآن يتنقل من عاصمة الى اخرى ، تُفتح له الأبواب ، وتُعقد معه الإجتماعات ، وتصغي له الأسماع ، ويحصد التفهم والتأييد للقضية الجنوبية ، ناهيك عن الدعم لمطلب اجراء استفتاء شعبي بإشراف دولي ، يحدد به الشعب الجنوبي خياراته ، ويرسم طريق مستقبله . تلك كانت ستغدو بداية مثالية لو ان ذكائهم دلهم عليها ، وطالما ان هذا لم يحصل ، فقد ذهبوا بدلا عن ذلك يقدمون انفسهم كما لو كانوا البديل ( الغير مطلوب ) لرئيس وحكومة يعترف بشرعيتهم العالم ، ولا يرغب على الأقل الآن في استبدالهم ، المشكلة انه عندما يسأل العالم ما مصدر شرعية البدلاء الجدد؟ يأتي الجواب صادما ً ، مظاهرة في ساحة العروض . البداية الخاطئة تقود حتماً الى نتائج خاطئة تلك من المسلمات ، والمجلس الإنتقالي كان منذ البداية خطوات وليس خطوة واحدة في الإتجاه الخاطىء : 1 لأنه جاء رد فعل على اقالة محافظ ووزير دوله من منصبيهما ، وقضايا الشعوب لا يتم التعامل معها بمنطق رد الفعل . 2 وهو تشكل بزعم الإستجابة لإرادة شعبية لكن هذه الإراده في الواقع لا تمثل في احسن الأحوال اكثر من 10 % من مجموع الشعب الجنوبي ، تم التعبير عنها من خلال مظاهرة في مدينة عدن. 3 واعتمد على قراءة خاطئة في مواقف دول الإقليم وبالذات دولة الإمارات ، ظناً وبعض الظن إثم انها تؤيد الإنفصال وانها ستدعمه مادياً وسياسياً . 4 وخلق نوع من الجفاء السياسي مع السعودية وهي الدولة صاحبة الثقل الإقليمي الأكبر سياسيا واقتصاديا وعسكريا ، ويتبدى هذا الجفاء في حصر قادة المجلس علاقتهم بالإمارات ، التي اصبحوا يمضون فيها من الوقت اكثر بكثير من الذي يمضونه في عدن . 5 اتخذ من الشرعية عموما والرئيس هادي بشكل خاص خصماً سياسياً ، رغم انه الرئيس المعترف بشرعيته دوليا ، والذي قامت بناء على طلبه ، وبهدف اعادة شرعيته حرب اقليمية كبرى لا تزال فصولها تتوالى وهي تقترب من نهايتها الظافرة . وياليت ان الأخطاء اقتصرت على البداية فقط ، لكن سلسلة الأخطاء امتدت لتغطي الفترة الزمنية من الإعلان عن تشكيل المجلس الإنتقالي وحتى الآن . تعطيل الدور الحكومي في التنمية في كل العالم تُعطى التنمية المرتبطة بحياة الناس اليومية اهمية قصوى ، وهي لا تتوقف حتى في اصعب الظروف ، لأن توقفها يعني تعطيل خدمات ومرافق ذات اهمية قصوى للمواطن البسيط ، مثل التعليم ، والصحة ، والمياه ، والكهرباء ، والطرق ، والصرف الصحي .. الخ ..، مما يتسبب بالمزيد من بؤس وشقاء المواطنين ، لهذا يكون دعم اي حكومة قادرة على التخفيف من هذه المعاناة ، سواء اتفقنا معها ام لم نتفق ، احببناها او لم نفعل ، هو واجب وطني على كل فرد او كيان ، ولا نقصد بطبيعة الحال الدعم السياسي ، بل يكفي افساح الطريق امامها لإنجاز ما تقدر عليه ، اسهاماً في تيسير حياة الناس وتخفيف معاناتهم . إدخال عملية التنمية بالمماحكات السياسية كان واحدا من الأخطاء الفادحة التي وقع بها المجلس ، وكلنا يتذكر كيف امتنعوا عن تسليم المحافظ المفلحي مبنى المحافظة ومنزل المحافظ مما تسبب في تعطيل قدرته على القيام بمهام وظيفته ، والى الآن لا يزال الوزراء المتواجدين في عدن غير قادرين على القيام بمهامهم في اجواء طبيعية ، لأنهم مُحاصَرين بالتأليب والتهييج الإعلامي ، وحتى بالتحريض العنصري بالنسبة للوزراء الشماليين ، الأمر الذي يعكس نفسه على الأداء الحكومي بمظاهر قصور وضعف يدفع ثمنه في الأخير المواطن البسيط . سؤال واحد فقط يكشف عبثية التصرفات المعيقة لأداء الحكومة الشرعية .. لو ان هذه الحكومة غادرت عدن غدا وهذا ما يتمناه ويطالب به كثير من قادة وانصار الإنتقالي فمن اين ستأتون بموارد تكفي لمواجهة احتياجات الشعب الجنوبي ؟ الإمارات على أقصى تقدير يمكن ان تخصص ميزانية لمصروفات المجلس الإنتقالي ، وربما دعم الحزام الأمني ، وترميم مدرسة هنا او مستشفى هناك ! لكن من سيمول عملية التنمية ؟ ومن اين سيتم تمويل صيانة البنية الأساسية القائمة والتوسع في المشروعات الجديدة ؟ وكيف ستوفرون رواتب موظفي الدولة وهم بمئات الآلاف ؟ وكيف ستحمون حدودكم ؟ وترسخون امنكم ؟ . بيع الوهم محاولة اقناع الناس بأن مجرد استجابتهم لدعوات التظاهر فيما يسمى " بالمليونيات " ، ورفع الأعلام الجنوبية ، واظهار التأييد والإلتفاف حول المجلس الإنتقالي سوف يعيد لهم دولتهم المفقودة ، هو قول بعيد جدا عن الحقيقة وتبسيط مخل للواقع . الواقع ان الإنفصال لم يعد مسأله متعلقه فقط برغبة الشعب الجنوبي ، رغبته احد الجوانب المهمة لهذه المسأله لكن ليس كلها ، هناك جوانب اخرى متعلقة برؤية المجتمع الدولي لصوابية هذه الخطوة وفي هذا الوقت بالذات . وموقف المجتمع الدولي على الأقل في الوقت الراهن ليس داعماً للإنفصال ، وهو على العكس من ذلك يكرر في كل بياناته عبارة ( الحفاظ على استقرار ووحدة اليمن وسلامة اراضيه ) ، وهي العبارة التي لا يخلو منها اي بيان صادر عن مجلس الأمن يتعلق باليمن ، وآخرها البيان الصادر عن المجلس الأسبوع الماضي . حصول تحول عميق في هذا الموقف يحتاج الى بذل جهد خرافي مع دول الإقليم والدول المؤثرة في العالم تعززها علاقات ، وحوارات ، وتدعمها حقائق على الأرض . والمشكلة ان المجلس الإنتقالي بالصورة التي أُعلن بها وبالخطوات التي قام بها حتى الآن ، غير مهيأ للقيام بهذا الدور ، فالعالم لا يعترف باغتصاب شرعيات باساليب شعبويه وادعاءات ، ولا يفهم كيف تغيب الممارسة الديمقراطية داخل كيان سياسي مع عدم وجود ما يحول دون ممارستها ، كما انه لا يفهم الشرعية الا تلك التي تأتي عبر صناديق الإقتراع . وفي هذه الحالة فإن اقصى ما يمكن للمجلس الإنتقالي ان يقوم به هو مد جسور علاقات من تحت الطاولة مع اجهزة امنية لدول الإقليم ، او لأجهزة بعض الدول المؤثرة في العالم ، لكن هذا النوع من العلاقات قد يعود بمنافع على الأفراد الذين يقومون بها ، لكنه لا يأتي بأوطان . الديمقراطية الكسيحة في كل مرة ترد على لسان رئيس المجلس الإنتقالي او بعض اعضاء المجلس كلمة الديمقراطية ، اسأل نفسي هل يعرفون حقا ماذا تعني كلمة ديمقراطية ؟ هل سبق لهم ان قرأوا عنها وفهموها ؟ وحتى لو لم يقرأوا عنها الا يرون العالم حولهم كيف يمارس العمل الديمقراطي ؟ في الواقع ان ما تم اعلانه الى الآن من خطوات لا تمت الى الديمقراطية بصلة ، ان يقوم رئيس المجلس بتعيين قيادة المجلس ، ثم يقوم بتعيين اعضاء الجمعية الوطنية ( برلمان) ، وبعدها يقوم بتعيين رئيس الجمعية الوطنية ، فهي تصرفات يمكن وصفها بالإنفرادية او الديكتاتورية اوما شئت من اوصاف الا ان توصف بأنها ديمقراطية ! وفي هذه الجزئية بالذات دعونا نضع النقاط على الحروف : اولا : كون رئيس المجلس الإنتقالي حصل على تفويض شعبي في مظاهرة ، فهو يمثل الذين حضروا ومنحوه هذا التفويض في المظاهرة لا اكثر ، والإدعاء بأن هذا التفويض ينسحب على شعب الجنوب بكامله هو ادعاء مجاف للحقيقة . ثانيا : اذا كان البعض قد قبل على مضض قيام رئيس المجلس بتعيين هيئة رئاسة المجلس ، وتعيين جميعة وطنية ( برلمان ) بحجة ان الظروف لا تسمح باجراء انتخابات ديمقراطية الآن ، الا ان هذا لا يعني ان هذا التفويض ابدي ، وهو يسقط بمجرد ان تتغير الظروف ويصبح اجراء الإنتخابات ممكنا. ثالثا : ليس مقبولا تحت اي ظرف ان تُدعى الجمعية الوطنية الى اول اجتماعاتها ، ثم لا يكون على رأس جدول أعمالها انتخاب هيئة رئاسة جديدة للمجلس الإنتقالي ، ورئيس واعضاء هيئة رئاسة للجمعية الوطنية فهذا من صلب اعمالها ، أما ان يستمر رئيس المجلس باصدار قرارات التعيين ويعلنها من المنصة في اجتماع الجمعية الوطنية نفسها فهو بهذا يصادر وظيفتها ، ويلغي دورها ، وتنتفي الحاجة اليها . هذا السلوك يقدم لنا مؤشرا لا تخطئه العين للموقف والنوايا من الديمقراطية مستقبلا ، وهو ليس مؤشر سلبي فقط ، ولكنه كارثي . الحل الأمثل ما سبق لا يعني ان المجلس الإنتقالي ذهب في طريق بلا عوده ، بل لا يزال الوقت مبكرا والإصلاح ممكناً . وبرأينا فإن الخطوة المثالية للمجلس للبدء بالمعالجة هو التحول الى حزب داخل منظومة العمل السياسي القائمة ، يعتمد الديمقراطية منهجاً يضع بها حداً للأسلوب المسيء الذي تم اتباعه الى الآن ، والمتمثل بتعيين الاشخاص في المواقع القيادية للمجلس ، فالتعيين تصرف معيب لا يليق بالمجلس كما لا يليق بالشعب الجنوبي ، كما ان الديمقراطية ليست سلوك ترفي او مجرد طريقة للمفاضلة بين طرق ، لكنها قبل ذلك وبعده تعبير عن الخضوع لراي الأغلبية ، المبدأ الذي يدين العالم كله بالولاء له الآن . وبطبيعة الحال لن يكون على المجلس التخلي عن هدفه المعلن ، وهو السعي لتحقيق الإنفصال عن الشمال ، واستعادة الدولة الجنوبية المستقله من المهرة الى باب المندب ، وعاصمتها عدن ، لكن سيتعين عليه ان يضبط ايقاع حركته ونشاطه بما يتلائم مع قواعد العمل السياسي القائمة وحقائق الواقع : 1 الإقتناع بأن السعي للإنفصال هو هدف مؤجل الى ان تضع الحرب اوزارها ، وفي الواقع هذا وضع تحصيل حاصل ، فالمعتاد ان ظروف الحرب لا تسمح باي نشاط يمكن ان يشكل عائقاً او تعارضاً مع هدف الحرب ، وبالتأكيد فإن الإنفصال او الدعوة اليه وقت الحرب هو احد هذه العوائق. 2 ان يسعى بنشاط للمساهمة بالوصول بالحرب الى نهايتها المنتصرة ضد المشروع الطائفي الإيراني ، فالحرب ليست فعلاً يمنيا خالصا بل هي مشروع دفاع اقليمي ، والإنخراط بها هو جواز المرور للإقليم للبدء في تفهم اهداف ورغبات وتطلعات الشعب الجنوبي ، يضاف اليها ان اسقاط المشروع الطائفي الإيراني هو مصلحة جنوبية مؤكدة ، لأنه كان ولا يزال وسيستمر الخطر الأكبر الذي يهدد حاضر ومستقبل الجنوب . 3 التوافق على ان لا احد يملك حصريا حق التحدث بلسان الجنوبيين عن مستقبل الجنوب ، ليس المجلس الإنتقالي ولا حتى المظاهرات التي تخرج من وقت الى آخر ، بل يعبر عنها الشعب الجنوبي نفسه من خلال استفتاء شعبي حر ونزيه بإشراف اقليمي ودولي يحدد به الجنوبيين خيارهم امام العالم وبإشرافه ، لكنها خطوة مؤجلة الى نهاية الحرب القائمة . التحول الى حزب يمارس العمل السياسي وفق القواعد الديمقراطية ، والمساهمة في تحقيق النصر العربي في الحرب على الميليشيات الإيرانية ، وتبني الدعوة لاحقا الى اجراء الإستفتاء للجنوب ، ثلاث مرتكزات سوف تقود الى تحقيق تطلعات الشعب الجنوبي ، وتؤسس لترسيخ المجلس الإنتقالي كثقل حزبي وشعبي لا يمكن تجاهلة او القفز عليه اقليميا ودوليا ، الفرق حينها ان العالم سوف يكون مستمعا ومتفهما وداعما لخيار شعبي حقيقي ، وليس مجرد ادعاء عبرت عنه هتافات في مظاهرة .