ما من شك في أن الحراك السلمي الجنوبي كان ردة فعل طبيعية لفداحة القهر والظلم الذي لحق بالجنوبيين وهم الذين قدموا للوحدة كل ما يملكونه من مؤسسات دولة عامرة وأرض مشاعة وممتلكات عامة منتجة وكفاءات مؤهلة وروح تتقد للنضال ومفعمة بإحساس الانتماء للوطن ومستعدة للبذل والإعمار . وحقيقة الأمر لم يكن الانفصال مطلبا جنوبيا واضحا إلا بعد أن رأى الجنوبيوت أخوانهم في الشمال يتفرجون ولا يحركون ساكنا أمام المجازر التي تعرض لها الجنوبيون والاستهداف الواضح لتدمير هوية الإنسان الجنوبي وتاريخه بعد أن تمت تصفية ممتلكاته العامة والخاصة. ومع أن النظام الفاسد يهلك الزرع والضرع في الشمال والجنوب وفي كل الجهات إلا أنه نجح في إسكات الشارع الشمالي وهو الأمر الذي جعل الانفصال مطلبا أوليا أو رئيسا لدى الجنوبيين.
وإذا كان الشارع اليمني قد انتفض أخيرا ضد ظلم اللانظام القائم وفساده فذلك ليس امتدادا للحراك الجنوبي بل امتدادا لربيع الثورات العربية التي أعطته الحافز إلى القيام بدوره، ومن ثم لم يجد نفسه معنيا بمطالب الحراك الجنوبي في كل حال بل سيجد نفسه في مواجهة مطلب تقرير المصير أو حتى إعادة مؤسسات الدولة التي كانت قائمة في الجنوب ؛ لأنها من وجهة نظر الذين أسقطوها - وهم ما يزالون قوة مؤثرة في الحكم وفي المعارضة بما فيهم حزب الاصلاح والقيادات القبلية وهي قوى أساسية في الثورة القائمة - غير مفصولة عن آليتها السياسية الممثلة بالحزب الاشتراكي وتوجهاته غير المنسجمة مع فكر هذه القوى. فضلا عن أن هذه المؤسسات لم تحول الى ملكية النظام السياسي بل تحولت الى جيوب الافراد الذين اشتركوا في الحرب على الجنوب ومن ثم لا يمكن أن يكونوا مناصرين لمطالب الحراك الجنوبي.
غير أن المشكلة قائمة أيضا في قيادات الحراك الجنوبي نفسها فهي لم تبلور رؤية واضحة ليس لأن فصائل الحراك عديدة ومختلفة بل لأنها متفقة في العشوائية والاكتفاء بالتصريحات والخطب الحماسية من دون توضيح كاف لموقفها وسبب اختلافها وخلافها ورؤيتها لمستقبل الجنوب في حال بقاء اللانظام هذا او انتصار الثورة القائمة. لم تقل لنا قيادات الحراك بالضمانات التي تجعل الدولة التي سيعاد قيامها في الجنوب دولة لا تسمح لأن يصير الجنوب ثلاثة وعشرين سلطنة ومشيخة وإمارة وأن لا يعاد إنتاج علي عبد الله صالح وحاشيته وقبائله بصورة أخرى وربما أسوأ. خاصة وأن تعدد قيادات الحراك ومنابرها تتخذ طابعا مناطقيا وقبليا بل أن بعض قيادات الحراك تتحدث عن حاجة الجنوب بعد انفصاله الى فدرالية بين مناطقه المختلفة تأخذ في الاعتبار اختلاف المساحة والثروة. وهذا يحصل في حين أن الشارع الجنوبي كله موحد ومتفق على إسقاط اللانظام القائم أولا ومن ثم تقرير المصير وهو يملك القدرة على تحقيق مطالبه لكنه لا يمتلك القيادة التي تعلمه كيف يختصر الطريق بقدر ما يمتلك القيادات التي تشتت جهده وتحبط معنوياته وتهدر تضحياته.
ان الموقف المناهض للثورة القائمة في اليمن لا يمكن أن يصب إلا في مصلحة اللانظام القائم ، وما من شك في أن الثورة منتصرة منتصرة ومن مصلحة الجنوبيين أن يكونوا جزء من القوة التي تسقط اللانظام القائم كي يكونوا جزءا من القوة التي تصنع التغيير الذي يمكن أن تحدثه الثورة في الواقع السياسي والاجتماعي وكي لا يتركوا الفرصة للقوى التي أبادت مؤسسات الدولة في الجنوب لأن يستثمروا الثورة أيضا في تثبيت مآربهم.