لقد بدأ التوجه نحو التصالح والتسامح بمبادرة من جمعية ردفان عام 2006م بدعوة صادقة لنبذ الخلافات الجنوبية السابقة وجمعت في لقاءها الشهير ممثلين عن الأطياف المتصارعة على السلطة في حرب 13 يناير 1986م المشؤومة وكانت هذه النواة الحقيقية لانطلاق الحراك الجنوبي متبنيا للقضية الجنوبية. ولكن هذه النواة لم تتطور بشكل كافية كي يثق المجتمع الدولي أن الجنوبيين قادرون على ادارة دولة جديدة بعيدا عن الصراعات المناطقية على السلطة والتي طوال فترة تسلم الجبهة القومية وبعدها الحزب الاشتراكي اليمني للسلطة في الجنوب تدثرت بعبائة رثة من المبادئ عديمة الجدوى والتي لم تجلب سوى الخراب والدمار لكل العقول التي اما كانت سيئة الحظ وتمت تصفيتها أو سعيدة الحظ ففرت بنفسها الى الخارج لتصبح شريكا أساسيا في تنمية البلدان التي فرت اليها ومحيطها الجغرافي أيضا.
ان الاستفادة من التجارب التي قامت بها الأمم قبلنا ومقارنتها بوضع التصالح والتسامح الجنوبي الحالي لن يقودنا فقط الى كسب احترام المجتمع الدولي ولا الى بناء دولة بعيدة عن منتهكي حقوق الانسان، وانما تجنيب الجنوبيين المزيد من الصراعات القادمة التي لا محالة آتية طالما كانت الأمور عاطفية بعيدة عن المنطق العلمي والنفسي والاجتماعي السليم.
دعونا هنا نطلع على ما قامت به رواندا في عملية التصالح والتسامح حسب الاقتباس المأخوذ من الموقع الاكتروني الرسمي للأمم المتحدة:
* شرعت الحكومة الرواندية في تطبيق نظام تشاركي للعدالة، يعرف باسم “غاتشاتشا” (وينطق هذا الاسم هكذا: غا- تشا- تشا)، وذلك في عام 2001 من أجل
مواجهة ذلك الكم الهائل من القضايا المتراكمة في النظام القضائي. وفي هذا النظام، يقوم القضاة المنتخبون على الصعيد المجتمعي بالاستماع إلى محاكمات المشتبه في مشاركتهم في الإبادة الجماعية والمتهمين بأية جريمة من الجرائم باستثناء التخطيط لعمليات الإبادة أو الاغتصاب.
أما الذين توجه إليهم تهمة النهب أو القتل، مع اعترافهم بذنبهم، فإنه يطلق سراحهم مؤقتاً ويعودون إلي مساكنهم انتظاراً للمحاكمة. ولا تزال رواندا تستخدم نظام المحاكم الوطني التقليدي في مقاضاة من يتورطون في التخطيط للإبادة أو في أعمال الاغتصاب في إطار قانون العقوبات العادي. والمتهمون بهذه الجرائم لا يحصلون على إطلاق سراح مؤقت.
والمحاكم التابعة لنظام غاتشاتشا تحكم بعقوبات أقل شأناً في حالة إعلان الشخص لتوبته وسعيه للتصالح مع المجتمع المحلي المعني. ومن المقصود بهذه المحاكم أن تساعد المجتمع المحلي في المشاركة في عملية العدالة والتصالح على صعيد البلد.
لجنة الحقيقة والمصالحة Truth and Reconciliation Commission (TRC) كانت هيئة لاستعادة للعدالة على شكل محكمة شكلت في جنوب أفريقيا بعد إلغاء الأپارتهايد. الشهود الذين كانوا ضحايا لانتهاكات سافرة لحقوق الإنسان تمت دعوتهم للادلاء بشهاداتهم حول تجاربهم، واُختير بعضهم لجلسات إفادة عامة (مذاعة).
مرتكبو العنف كان بإمكانهم الإدلاء بشهاداتهم وطلب العفو من الملاحقة المدنية والجنائية. وكانت الشهادات تتم أمام اللجنة المنعقدة بهيئة محكمة ويقوم مدعون بجلب ضحايا ليقدموا شهادات مضادة، بغرض الوصول إلى الحقيقة.
وكان بإمكان اللجنة منح عفو للمتهمين ما لم يرتكبوا جنايات. وتقرر اللجنة موعد منح الأهلية السياسية التي تتيح للمتهم مزاولة حقوقه السياسية، التي قد تكون مباشرة بعد المحاكمة أو بعد بضع سنين أو يُحرم منها.
لجنة الحقيقة والمصالحة لعبت دوراً محورياً في اعادة اللحمة الوطنية دون اهدار لحقوق ضحايا النظام السابق ودون حرمان الطبقة الحاكمة السابقة من فرصة اعادة تأهيلها.
لجنة الحقيقة والمصالحة، التي كانت الأولى بين تسعة عشر لجنة مشابهة في أرجاء العالم للاستماع للأقوال على الملأ، رآها الكثيرون كعنصر أساسي للانتقال إلى ديمقراطية كاملة وحرة في جنوب أفريقيا. وبالرغم من بعض الأخطاء، فإنه يُعتقد عموماً (وإن لم يكن بالإجماع) أنها كانت ناجحة.
هنا نسأل أنفسنا: هل هناك من أرتكب جريمة ابادة جماعية أو أنتهاك ضد حقوق الانسان الجنوبي تقدم ليدلي بشهادته أمام الجنوبيين ليطلب العفو؟؟؟ وهل التصالح والتسامح يعني ضياع حقوق الجنوبيين أم اعطاء كل ذي حق حقه؟ والملاحظ أن هناك فرق حتى في التسميات فتجربة رواندا اسمها عملية العدالة والتصالح وفي جنوب افريقيا اسمها الحقيقة والمصالحة، أي أن هناك توجهين في العمليتين حتى تنجحان ألا وهو تحقيق العدالة وعرض الحقيقة ومن ثم يأتي التصالح وهذا يعتبر حقا طبيعيا لضمان حقوق المظلومين وعدم اهدارها، بينما في الجنوب تم تجاهل أي مفهوم يضمن حقوق المجني عليهم والقفز مباشرة الى التصالح والتسامح.
طبعا وفي ظل الوضع الحالي فأن الحديث عن محكمة متخصصة وقضاة يقررون يعتبر ضربا من عدم تقدير الواقع وقفز على المراحل الزمنية ولكن مناقشة هذه التجارب بجدية ووضع الآليات المستقبلية التي تضمن تصالحا وتسامحا حقيقيا من خلال تشكيل لجنة متخصصة من حقوقيين جنوبيين مستقلين عن أطراف الصراعات الموسمية في الجنوب تقوم بقولبة مفهوم التصالح والتسامح قانونيا وحقوقيا يجب أن لا يعتبرها أحد ترفا غير واقعي فالقضية الجنوبية بدأت تأثيرها الفعال على الأرض بأهم ما ينبغي عمله في الجنوب ألا وهو التصالح والتسامح ولهذا فأن الحفاظ على انجاز كهذا لا يتأتى بالشعارات المرحلية فلازالت هناك مظالم على الأرض تنتظر تصحيحها ولا تزال هناك حقوق مسلوبة وحقائق مغيبة.