الحياة العامة هي الحياة الحقيقية والطبيعية وماسواها مؤقت وزائف ولو طال. في رحلتي من رخية إلى المكلا ركبت باص نقل صغير وخلال الرحلة الممتدة حوالي أربع ساعات تعلمت بعض الدروس.. في البداية حينما وصل الباص الذي كنت بانتظاره وجدت فيه مجموعة من الشباب المخزنين بالقات والمدخنين فاستأت وأنا أتساءل مع نفسي كيف سأقضي الساعات الطويلة مع من لا أطيقهم ولا أتحمل الجلوس معهم !! ولكن لاسبيل غير الصبر. ركبنا الباص وانطلقنا.. تذكرت رحلاتنا الماضية قبل عدة سنوات كنا في حضرموت لانكاد نجد في كل الركاب سوى شخص مخزن أو اثنين ونجدهم يشعرون بالحرج لمخالفتهم الطابع العام ولإدراكهم لنظرة الناس لهم.. أما الآن فلا أخفيكم أنني من وجد نفسه محرجاً وكأنني متخلف حينما وجدت نفسي الوحيد في ركاب الباص بدون قات. انظروا كيف أصبحنا نتعايش مع سلوكيات دخيلة باعتبارها عرف وعادة مجتمعنا وربما أصبحنا نستنكر مخالفتها ولو على مستوى الشعور. لازالت نظرتي لرفاق رحلتي باعتبارهم مجموعة شباب من هواة البلدة الذين لم يحضوا بمستوى تعليمي جيد ومنهم عساكر بنفس المستوى كونهم يحملون أسلحتهم ويمضغون القات.. لكسر الملل أخرجت من حقيبتي كتاب وبدأت أقرأ فيه.. حينها لمس أحدهم كتفي من الخلف، التفت وإذا بشاب بدوي ذو شارب وشعر طويل وثوب وعمامة متقن للموضة الشبابية بوادي حضرموت بامتياز... وبدأ كلامه؛ المعذرة ياأخي قطعت قراءتك!! استغربت أسلوبه اللطيف الذي لا تعبر عنه صورته على الأقل التي في رأسي لشاب بدوي مخزن وصاحب شعر طويل.. خير.. قال؛ تقرأ رواية؟.. قلت: لا.. كتاب عادي، وقلبت الغلاف باتجاهه.. قال.. مارك مانسون؟؟ قد قرأت له بعض الكتب. .قلت : الرجال واحد من اثنين ياإما فعلاً قارئ وإما إن مارك مانسون في رأسه محتبي ��.. قال: ياأخي.. أنا أقرأ روايات ولكن عندي مشكلة.. حينها قفز في رأسي سيادة المستشار.. وقلت أيش مشكلتك؟ قال: أمل من بعضها ولا أكملها خصوصاً التي ليست بها حبكة متقنة. أنا بدأت أراجع حساباتي ☺وأعدل نظرتي تجاهه وأستمعت له وهو يسرد الروايات والكتب التي قرأها ومنها الأسود يليق بك لأحلام مستغانمي وقال إن رواية النسيان لأحلام أفضل من الأسود كونه على شكل فصول مستقلة عن بعضها وهو مايحبذه.. بصراحة..الآن أنا اللي رحت في خرايطها.. وأنا طلعت بدوي وشائف نفسه على ماشي.. أستحق هذه النكزة. التفتّ له بشكل أفضل وتحدثنا وتعارفنا بعد أن قال إنه أحد تلاميذ أخي الدكتور حسن وصديقي د. Belhaj Fozi في كلية العلوم الإدارية. بجواري شاب صغير يمضغ القات لازالت نظرتي له سلبية وبعد أن تحدث معنا عرفنا أنه في طريقه إلى المكلا لتعلم اللغة الإنجليزية ليعمل بعدها في شركة أقاربه بإفريقيا.. كم ظلمنا أنفسنا وظلمنا الآخرين حين حكمنا عليهم بمظاهرهم التي هي ليست إلا طريقتهم وأسلوب حياتهم الذي يعشقونه ولكن بداخلهم رجال أوفياء ومفكرين ومثقفين أيضاً.. كم غرتنا مظاهر المكرفتين و أصحاب البدلات الأنيقة على جثث خاوية عن جوهر ماتكنه خلقان شبان البادية ذوي القلوب الفطنة والعقول النيرة والنفوس العظيمة. #علمني_السفر أن الحياة ليست على ظواهرها وأن الحقيقة ليست التي ندركها من الوهلة الأولى.. كن أكثر عمقاً وأجل الحكم على الناس فلست معنياً به. عبدالرحمن بن غانم @ao.ghanem